فصل: تفسير الآيات رقم (1- 2)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 62‏]‏

‏{‏لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏60‏)‏ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ‏(‏61‏)‏ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ‏(‏62‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏لنُغرينك‏}‏‏:‏ جواب القسم المغني عن جواب الشرط‏.‏ و‏{‏ثم لا يُجاورنك‏}‏‏:‏ عطف عليه؛ لأنه يصح أن يُجاب به القسم؛ لصحة قولك‏:‏ لئن لم ينتهوا لا يُجاورنك، ولَمَّا كان الجلاء عن الوطن أعظم من جميع ما أُصيبوا به عطف بثم، لبُعد حاله عن حال المعطوف عليه‏.‏ و‏{‏ملعونين‏}‏‏:‏ نصب على الشتم أو الحال، والاستثناء دخل على الظرف والحال معاً، أي‏:‏ لا يُجاورنك إلا قليلاً في اللعنة والبُعد، ولا يصح نصبه بأُخذوا؛ لأن ما بعد حرف الشرط لا يعمل فيما قبله‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏لئن لم ينته المنافقون‏}‏ عن نفاقهم وإيذائهم، ‏{‏والذين في قلوبهم مرض‏}‏ فجور، وهم الزناة من قوله‏:‏ «فيطمع الذي في قلبه مرض»‏.‏ ‏{‏والمُرجِفُون في المدينةِ‏}‏ وهم أُناس كانوا يُرجفون بأخبار السوء في المدينة، من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون‏:‏ هُزموا وقُتلوا، وجرى عليهم كيت وكيت، فيكسرون بذلك قلوبَ المؤمنين‏.‏ يقال‏:‏ رجف بكذا‏:‏ إذا أخبر به على غير حقيقته؛ لكونه خبراً مزلزلاً غير ثابت، من‏:‏ الرجفة، وهي الزلزلة، ‏{‏لَنُغرينَّك بهم‏}‏ لنأمرنك بقتالهم وإجلائهم، أو ما يضطرهم إلى طلب الجلاء، أو‏:‏ لنُسلطنك عليهم، ‏{‏ثم لا يُجاورونك فيها‏}‏ في المدينة ‏{‏إِلا‏}‏ زمناً ‏{‏قليلاً‏}‏‏.‏

والمعنى‏:‏ لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم، والفسقة عن فجورهم، والمرجفون عما يُلقون من أخبار السوء، لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التي تسوؤهم، بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء من المدينة، وألاّ يُساكنوك فيها إلاّ زمناً قليلاً، ريثما يرتحلون‏.‏ فسمّي ذلك إغراء، وهو التحريشُ، على سبيل المجاز‏.‏ حال كونهم ‏{‏ملعونين‏}‏ أي‏:‏ لا يجاورونك إلا ملعونين، مُبعدين عن الرحمة ‏{‏أَينما ثُقِفُوا‏}‏ وُجدوا ‏{‏أُخذوا وقُتِّلوا تقتيلاً‏}‏ والتشديد للتكثير‏.‏

‏{‏سُنَّةَ اللهِ‏}‏ أي‏:‏ سَنَّ اللهُ ذلك سُنَّة ‏{‏في الذين خَلَوا من قبلُ‏}‏ في المنافقين الذين كانوا يُنافقون الأنبياء من قبل، ويسعون في وهنهم بالإرجاف ونحوه أن يقتّلوا أينما وُجدوا، ‏{‏ولن تجد لسُنَّة الله تبديلاً‏}‏ أي‏:‏ لا يُبدل الله سُنَّته ولا يقدر أحد أن يبدلها، بل يُجريها مجرىً واحداً في الأمم كلهم‏.‏

قال ابن جزي‏:‏ تضمنت الآية وعيد هؤلاء الأصناف إن لم ينتهوا، ولم ينفُذ الوعيد فيهم‏.‏ ففي ذلك دليل على بطلان القول بوجوب إنفاذ الوعيد في الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم انتهوا وستروا أمرهم؛ فكفّ عنهم إنفاذ الوعيد‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ منافقو الصوفية هم الذين ينتسبون إلى الصوفية، ويدّعون محبة القوم، وهم يعترضون على الفقراء، ويرفعون الميزان عليهم، وهم الذين في قلوبهم مرض، أي‏:‏ حيرة وضيق من غم الحجاب؛ إذ لو ارتفع عنهم الحجاب لم يعترضوا على أحد، وهم المرجفون بأهل النسبة، إذ سمعوا شيئاً يسوؤهم أفشوه، وأظهروا الفرح‏.‏ لئن لم ينتهوا عن ذلك ليُسلطن الله عليهم مَن يُخرجهم من النسبة بالكلية، ثم لا يبقون فيها إلا قليلاً، ممقوتين عند أهل التحقيق، أينما وُجدوا، أُخذوا بالفعل أو بالقول فيهم‏.‏ وقد ألَّف بعض الفقهاء تأليفاً في الرد على الفقراء، فسلّط الله عليه من أهانه، ووَسمَه بالبلادة والجمود، ولا زال مُهاناً أينما ذُكر، والعياذ بالله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 68‏]‏

‏{‏يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ‏(‏63‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ‏(‏64‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏65‏)‏ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ‏(‏66‏)‏ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ‏(‏67‏)‏ رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ‏(‏68‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يسألُكَ الناسُ عن الساعةِ‏}‏ كان المشركون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة، استعجالاً واستهزاءً، واليهود يسألون امتحاناً؛ لأن الله تعالى أخْفى وقتها في التوراة وفي كل كتاب، فأمر رسولَه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم بأنه علم قد استأثر الله به، ثم بيّن لرسوله عليه الصلاة والسلام أنها قريبة الوقوع، تهديداً للمستعجلين، وإسكاتاً للممْتحنين فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنما عِلْمُها عند الله‏}‏ لم يُطلع عليها ملكاً ولا نبيًّا‏.‏ ‏{‏وما يُدريكَ لعل الساعة تكونُ قريباً‏}‏ أي‏:‏ شيئاً قريباً، أو‏:‏ في زمان قريب، فتنصب على الظرفية، ويجوز أن يكون التذكير؛ لأن الساعة في معنى اليوم أو الزمان‏.‏

‏{‏إِنَّ الله لعنَ الكافرين‏}‏ أبعدهم عن رحمته، ‏{‏وأعدَّ لهم سعيراً‏}‏ ناراً شديدة التسعير، أي‏:‏ الإيقاد، ‏{‏خالدين فيها أبداً‏}‏ وهذا يرد مذهبَ الجهمية في زعمهم أن النار تفنى، و‏{‏خالدين‏}‏‏:‏ حال مقدرة من ضمير «لهم»‏.‏ ‏{‏لا يجدون وليًّا‏}‏ يحفظهم، ‏{‏ولا نصيراً‏}‏ يمنعهم ويدفع العذاب عنهم، وذلك ‏{‏يومَ تُقَلَّبُ‏}‏ أو‏:‏ واذكر ‏{‏يومَ تُقَلَّبُ وجوهُهُم في النار‏}‏ تطوف من جهة إلى جهة، كما ترى البضعة من اللحم تدُور في القِدْرِ إذا غلت‏.‏ وخصّت الوجوه؛ لأنها أكرم موضع على الإنسان من جسده‏.‏ أو‏:‏ يكون الوجه كناية عن الجملة‏.‏ حال كونهم ‏{‏يقولون يا ليتنا أطعنا اللهَ وأطعنا الرسولا‏}‏ في الدنيا، فنتخلص من هذا العذاب، فندّموا حيث لم ينفع الندم‏.‏

‏{‏وقالوا ربنا إِنا أطعنا سادتَنا وكبراءَنا‏}‏ والمراد‏:‏ رؤساء الكُفر، الذين لقنوهم الكفر، وزيّنوه لهم‏.‏ وقرأ ابن عامر ويعقوب «ساداتنا» بالجمع، جمع‏:‏ سادة، وسادة‏:‏ جمع سيد، فهو جمع الجمع، ‏{‏فأضلونا السبيلا‏}‏ أي‏:‏ أتلفونا عن طريق الرشد‏.‏ يقال‏:‏ ضلّ السبيلَ وأضلّه إياه، وزيادة الألف للإطلاق‏.‏ ‏{‏بنا آتهم ضِعفين من العذاب‏}‏ أي‏:‏ مثلي ما آتيتنا منه للضلال والإضلال، ‏{‏والعنْهُم لعناً كثيراً‏}‏ كثير العدد، تكثيراً لأعداد اللاعنين، أو‏:‏ العنهم المرة بعد المرة‏.‏ وقرأ عاصم بالباء، أي‏:‏ لعناً هو أشد اللعن وأعظمه‏.‏ وهو يدلّ على تعدُّد الأجزاء والأفراد‏.‏

الإشارة‏:‏ مذهب العباد والزهّاد والصالحين‏:‏ جعل الساعة نُصب أعينهم، لا يغيبون عنها، فهم يجتهدون في التأهُّب لها ليلاً ونهاراً‏.‏ ومذهب العارفين الموحّدين‏:‏ الغيبة عنها، بالاستغراق في شهود الحق، فلا يشغلهم الحق، دنيا ولا آخرة، ولا جنة ولا نار؛ لما دخلوا جنة المعارف، غابوا عن كل شيء، فانخلعوا عن الكونين بشهود المكوِّن، وجعلوا الوجود وجوداً واحداً؛ إذ المتجلي هنا وثَم واحد‏.‏ وإذا كان كُبراء الضلال يُضاعَف عذابهم، وكان كبراء الهداية يُضاعف ثوابهم، يأخذون ثواب الاهتداء والإرشاد، فمَن دلّ على هُدىً كان له أجره وأجر مَن اتبعه إلى يوم القيامة، ومَن اهتدى على يديه أحد جرى عليه أجره، وكان في ميزانه كل مَن تبعه كذلك، وفي ذلك يقول القائل‏:‏

والمرْءُ في مِيزانه اتباعُهُ *** فاقْدِرْ إذنْ قدر النبي مُحَمد

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 71‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ‏(‏69‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ‏(‏70‏)‏ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏71‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذَوْا موسى‏}‏ من بني إسرائيل ‏{‏فبرأه اللهُ مما قالوا‏}‏ وذلك أن بني إسرائيل كانوا يغتسلون عرايا، ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى عليه السلام يستتر لشدة حيائه، فقالوا‏:‏ ما يمنع موسى من الاغتسال معنا إلا أنه آدر والأدْرَة‏:‏ انتفاخ الأنثيين أو‏:‏ به عيب من برص أو غيره، فذهب يغتسل وحده، فوضع ثوبه على حجر، ففرّ الحجر بثوبه، فلجّ في أثره يقول‏:‏ ثَوْبي حَجَر، ثوبي حجر‏!‏ حتى نظروا إلى سوأته، فقالوا‏:‏ والله ما بموسى من بأس، فقام الحجر من بعد ما نظروا إليه، وأخذ ثوبه، فطفق بالحجر ضرباً، ثلاثاً أو أربعاً‏.‏

وقيل‏:‏ كان أذاهم‏:‏ ادعاءهم عليه قتل أخيه‏.‏ قال عليّ رضي الله عنه‏:‏ صعد موسى وهارون الجبل، فمات هارون، فقالت بنو إسرائيل‏:‏ أنت قتلته‏.‏ وكان أشدَّ لنا حبًّا، وألين منك، فآذوه بذلك، فأمر الله تعالى الملائكة فحملته، حتى مرت به على بني إسرائيل، وتكلمت الملائكة بمماته، حتى تحققت بنو إسرائيل أنه قد مات، فبرّأ الله موسى من ذلك، ثم دفنوه‏.‏ فلم يطلع على قبره إلا الرَّخَم من الطير، وإن الله جعله أصم أبكم، وقيل‏:‏ إنه على سرير في كهف الجبل‏.‏ وقيل‏:‏ إن قارون استأجر امرأة مومسة، لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ، فعصمها الله، وبرأ موسى، وأهلك قارون‏.‏ وقد تقدّم‏.‏

‏{‏وكان عند الله وجيهاً‏}‏ ذا جاه ومنزلة رفيعة، مستجاب الدعوة‏.‏ وقرأ ابن مسعود والأعمش «وكان عبداً لله وجيهاً»‏.‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله‏}‏ في ارتكاب ما يكرهه، فضلاً عما يؤذي رسوله، ‏{‏وقولوا قولاً سديداً‏}‏ صدقاً وصواباً، أو‏:‏ قاصداً إلى الحق‏.‏ والسدادُ‏:‏ القصدُ إلى الحق والقول بالعدل‏.‏ والمراد‏:‏ نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول‏.‏ والحثُّ على أن يُسددوا قولهم في كل باب؛ لأن حفظ اللسان، وسداد القول رأس كل خير، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏يُصلحْ لكم أعمالَكم‏}‏ أي‏:‏ يوفقكم لصالح الأعمال، أو‏:‏ يقبل طاعتكم، ويثيبكم عليها، ‏{‏ويغفرْ لكم ذنوبَكم‏}‏ أي‏:‏ يمحها‏.‏

والمعنى‏:‏ راقبوا الله في حفظ ألسنتكم، وتسديد قولكم، فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم ما هو غايةُ الطُلبة؛ من تقبل حسنَاتكم، ومن مغفرة سيئاتكم‏.‏ وهذه الآية مقررة للتي قبلها، فدلت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه على الأمر باتقاء الله في حفظ اللسان، ليترادف عليها النهي والأمر، مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام، واتباع الأمر الوعد البليغ بتقوى الله الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه‏.‏

ثم وعدهم بالفوز العظيم بقوله‏:‏ ‏{‏ومن يُطع اللهَ ورسولَه‏}‏ في الأوامر والنواهي ‏{‏فقد فاز فوزاً عظيماً‏}‏ يعيش في الدنيا حميداً، وفي الآخرة سعيداً‏.‏

جعلنا الله منهم، آمين‏.‏

الإشارة‏:‏ في الآية تسلية لمَن أوذي من الأولياء بالتأسي بالأنبياء‏.‏ رُوي أن موسى عليه السلام قال‏:‏ يا رب احبس عليّ ألسنة الناس، فقال له‏:‏ هذا شيء لم أصنعه لنفسي، فكيف أفعله بك‏.‏ وأوحى تبارك وتعالى إلى عزير‏:‏ إن لم تطِبْ نفساً بأن أجعلك علكاً في أفواه الماضغين، لم أثبتك عندي من المتواضعين‏.‏ ه‏.‏

واعلم أن تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم هو سبب السعادة والفوز الكبير، وتعظيم أولياء الله وخدمتهم هو سبب الوصول إلى الله العلي الكبير، وتقوى الله أساس الطريق، وحفظ اللسان وتحرِّي القول السديد هو سبب الوصول إلى عين التحقيق‏.‏ قال الشيخ زروق رضي الله عنه في بعض وصاياه بعد كلام‏:‏ ولكن قد تصعب التقوى على النفس؛ لاتساع أمرها، فتوجّهْ لترك العظائم والقواعد المقدور عليها، تُعَنْ على ما بعدها، وأعظم ذلك معصية‏:‏ الغيبة قولاً وسماعاً، فإنها خفيفة على النفوس؛ لإِلْفها، مستسهلة؛ لاعتيادها، مع أنها صاعقة الدين، وآفة المذنبين، مَن اتقاها أفلح في بقية أمره، ومَن وقع فيها خسر فيما وراءها‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يُصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، فجعل صلاحَ العمل متوقفاً على سداد القول، وكذلك ورد‏:‏ أن الجوارح تُصبح تشتكي اللسان، وتقول‏:‏ اتق الله فينا، فإنك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا‏.‏ فلا تهمل يا أخي لسانك، وخصوصاً في هذه الخصلة، فتورع فيها أكثر ما تورعُ في مأكلك ومشربك، فإذا فعلت طابت حياتك، وكفيت الشواغب، ظاهراً وباطناً‏.‏ ه‏.‏

فإذا تحققت بالتقوى، وحصّنت لسانك بالقول السديد، كنت أهلاً لحمل الأمانة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 73‏]‏

‏{‏إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ‏(‏72‏)‏ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إِنا عرضنا الأمانةَ على السماواتِ والأرضِ والجبالِ‏}‏ الأمانة هنا هي التوحيد في الباطن، والقيام بوظائف الدين في الظاهر، من الأوامر والنواهي، فالإيمان أمانة الباطن، والشريعة بأنواعها كلها أمانة الظاهر، فمَن قام بهاتين الخصلتين كان أميناً، وإلا كان خائناً‏.‏ والمعنى‏:‏ إنا عرضنا هذه الأمانة على هذه الأجرام العظام، ولها الثواب العظيم، إن أحسنت القيام بها، والعقاب الأليم إن خانت، فأبتْ وأشفقتْ واستعفتْ منها، مخافةَ ألاَّ تقدر عليها، فطلبت السلامة، ولا ثواب ولا عقاب‏.‏ وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏فأبَيْنَ أن يحْمِلنَها وأشفقنَ منها‏}‏ فيحتمل أن يكون الإباء بإدراكٍ، خلقه الله فيها، وقيل‏:‏ أحياها وأعقلها، كقوله‏:‏ ‏{‏ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏ ويحتمل أن يكون هذا العرض على أهلها من الملائكة والجن‏.‏

وقال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي‏:‏ وقد يقال‏:‏ الأمانة هي ما أخذ عليهم من عهد التوحيد في الغيب بعد الإشهاد لربوبيته، وينظر لذلك قوله‏:‏ «لن يسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن» وأما حملها على التكاليف فلا يختص بالآدمي؛ لأن الجن أيضاً مكلف، ومناسبة الآية لِمَا قبلها‏:‏ أن الوفاء بها من جملة التقوى المأمور بها‏.‏ ه‏.‏

وقيل‏:‏ لم يقع عَرض حقيقةً، وإنما المقصود‏:‏ تعظيم شأن الطاعة، وسماها أمانة من حيث إنها واجبة الأداء‏.‏ والمعنى‏:‏ أنها لعظمة شأنها لو عُرضت على هذه الأجرام العظام، وكانت ذا شعور وإدراك، لأبيْن أن يحمِلْنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان، مع ضعف بنيته، ورخاوة قوته، لا جرم، فإن الراعي لها، والقائم بحقوقها، بخير الدارين‏.‏ ه‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ والمراد بالإباية‏:‏ الاستعفاء، لا الاستكبار، أي‏:‏ أشفقن منها فعفا عنهن وأعفاهن‏.‏

‏{‏وحَمَلَها الإِنسانُ‏}‏ أي‏:‏ آدم‏.‏ قيل‏:‏ فما تمّ له يوم من تحملها حتى وقع في أمر الشجرة، وقيل‏:‏ جنس الإنسان، وهذا يناسب حملَ الأمانة على العهد الذي أخذ على الأرواح في عالم الغيب‏.‏ ‏{‏إِنه كان ظلوماً جهولاً‏}‏ حيث تعرض لهذا الخطر الكبير، ثم إن قام بها ورعاها حق رعايتها خرج من الظلم والجهل، وكان صالحاً أميناً عدولاً، وإن خانها ولم يقم بها، كان ظلوماً جهولاً، كلٌّ على قدر خيانته وظُلمه، فالكفار خانوا أصل الأمانة، وهي الإيمان فكفروا، ومن دونهم خانوا بارتكاب المناهي أو ترك الطاعة، فبعضهم أشد، وبعضهم أهون، وكل واحد عقوبته على قدر خيانته‏.‏

ثم علل عرضها، وهو‏:‏ لتقوم الحجة على عباده، فقال‏:‏ ‏{‏ليُعذبَ اللهُ المنافقين والمنافقاتِ والمشركينَ والمشركاتِ‏}‏ حيث لم يقوموا بها، وخانوا فيها، فتقوم الحجة عليهم، ولا يظلم ربك أحداً‏.‏ وقال أبو حيان‏:‏ اللام للصيرورة والعاقبة‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ اللام متعلق بحَمَلَها، وحينئذ تكون للعاقبة قطعاً‏.‏ ‏{‏ويتوبَ اللهُ على المؤمنين والمؤمنات‏}‏ حيث حملوا الأمانة، إلا أن العبد لا يخلو من تفريط، قال تعالى‏:‏

‏{‏كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 23‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 67‏]‏ ولذلك قال‏:‏ ‏{‏وكان الله غفوراً رحيماً‏}‏ فالغفران لمن لَحِقه تفريط وتقصير، والرحمة لمَن اجتهد قدر طاقته، كالأولياء وكبار الصالحين‏.‏

والحاصل‏:‏ أن العذاب لمَن تحملها أولاً، ولم يقم بحقها ثانياً‏.‏ والغفران لمَن تحملها وقام بحقها، والرحمة لمَن تحملها ورعاها حق رعايتها‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ الأمانة التي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال هي شهود أسرار الربوبية في الباطن، والقيام بآداب العبودية في الظاهر، أو تقول‏:‏ هي إشراق أسرار الحقائق في الباطن، والقيام بالشرائع في الظاهر، مع الاعتدال، بحيث لا تغلب الحقائق على الشرائع، ولا الشرائع على الحقائق، فلا يغلب السُكْرُ على الصحو، ولا الصحو على السُكْر‏.‏ وهذا السر خاص بالآدمي؛ لأنه اجتمع فيه الضدان؛ اللطافة والكثافة، النور والظلمة، المعنى والحس، القدرة والحكمة، فهو سماوي أرضي، رُوحاني بشري، معنوي وحسي‏.‏ ولذلك خصّه الله تعالى من بين سائر الأكوان بقوله‏:‏ ‏{‏خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 75‏]‏ أي‏:‏ بيد القدرة والحكمة، فكان جامعاً للضدين، ملكياً ملكوتيًّا، حسه حكمة، ومعناه قدرة‏:‏ وليست هذه المزية لغيره من الكائنات، فالملائكة والجن معناهم غالب على حسهم، فإذا أشرقت عليهم أنوار الحقائق غلب عليهم السكر والهَيَمان، والحيوانات والجمادات حسهم غالب على معناهم، فلا يظهر عليهم شيء من الأنوار والأَسرار‏.‏

وهذا السر الذي خُصّ به الآدمي هو كامن فيه، من حيث هو، كان كافراً أو مؤمناً، كما كَمُن الزبد في اللبن، فلا يظهر إلا بعد الترتيب والضرب والمخض، وإلا بقي فيه كامناً، وكذلك الإنسان، السر فيه كامن، وهو نور الولاية الكبرى، فإذا آمن ووحّد الله تعالى، واهتز بذكر الله، وضرب قلبه باسم الجلالة، ظهر سره، إن وجد شيخاً يُخرجه من سجن نفسه وأسر هواه‏.‏

وله مثال آخر، وهو أن كمون السر فيه ككمون الحَب في الغصون قبل ظهوره، فإذا نزل المطر، وضربت الرياح أغصان الأشجار، أزهرت الأغصان وأثمرت، وإليه أشار في المباحث الأصلية، حيث قال‏:‏

وهي من النفوس في كُمُون *** كما يكون الحب في الغصون

حتى إذا أرعدت الرعود *** وانسكب الماء ولان العود

وجال في أغصانها الرياح *** فعندها يرتقب اللقاح

ثم قال‏:‏

فهذه فواكه المعارف *** لم تشر بالتالِد أو بالطارف

ما نالها ذو العين والفلوس *** وإنما تُباع بالنفوس

فلا يظهر هذا السر الكامن في الإنسان إلا بعد إرعاد الرعود فيه، وهي المجاهدة والمكابدة، وقتل النفوس، بخرق عوائدها، وبعد نزول أمطار النفحات الإلهية، والخمرة الأزلية، على يد الأشياخ، الذين أهَّلهم الله لسقي هذا الماء، وتجول في أغصان عوالمه رياح الواردات، وينحط مع أهل الفن، حتى يسري فيه أنوارهم، ويتأدّب بآدابهم، فحينئذ ينتظر لقاح السر فيه، ويجني ثمار معارفه، وإلا بقي السر أبداً كامناً فيه‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏ وصلّى الله على سيدنا محمد وآله‏.‏

سورة سبأ

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏1‏)‏ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ‏(‏2‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏الحمدُ لله‏}‏ إن أُجري على المعهود فهو بما حمد به نفسه محمود، وإن أجرى على الاستغراق فله لكل المحامد الاستحقاق‏.‏ واللام في ‏(‏لله‏)‏ للتمليك؛ لأنه خالقُ ناطقِ الحمد أصلاً، فكان بملكه مالك للحمد، وللتحميد أهلاً، ‏{‏الذي له ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ خلقاً، وملكاً، وقهراً، فكان حقيقياً بأن يُحمد سرًّا وجهراً، ‏{‏وله الحمدُ في الآخرة‏}‏ كما له الحمد في الدنيا؛ إذ النعم في الدارين هو مُوليها والمُنعم بها‏.‏ غير أن الحمد هنا واجب؛ لأن الدنيا دار التكليف‏.‏ وثمَّ لا؛ لأن الدار دار التعريف، لا دار التكليف‏.‏ وإنما يحمد أهل الجنة سروراً بالنعيم، وتلذذاً بما نالوا من الفوز العظيم، كقوله‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ للهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 74‏]‏ و‏{‏الْحَمْدُ للهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 34‏]‏ فأشار إلى استحقاقه الحمد في الدنيا بقوله‏:‏ ‏{‏الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ وأشار إلى استحقاقه في الآخرة بقوله‏:‏ ‏{‏وله الحمدُ في الآخرة وهو الحكيمُ‏}‏ بتدبير ما في السماوات والأرض، ‏{‏الخبيرُ‏}‏ بضمير مَن يحمده ليوم الجزاء والعَرْض‏.‏

‏{‏يعلمُ ما يَلِجُ‏}‏ ما يدخل ‏{‏في الأرض‏}‏ من الأموات والدفائن، ‏{‏وما يخرج منها‏}‏ من النبات وجواهر المعادن، ‏{‏وما ينزلُ من السماء‏}‏ من الأمطار وأنواع البركات، ‏{‏وما يعرجُ‏}‏ يصعد ‏{‏فيها‏}‏ من الملائكة والدعوات، ‏{‏وهو الرحيمُ‏}‏ بإنزال ما يحتاجون إليه، ‏{‏الغفورُ‏}‏ بما يجترئون عليه‏.‏ قاله النسفي‏.‏

الإشارة‏:‏ المستحق للحمد هو الذي بيده ما في سماوات الأرواح؛ من الكشوفات وأنواع الترقيات، إلى ما لا نهاية له، من عظمة الذات، وبيده ما في أرض النفوس؛ من القيام بالطاعات وآداب العبودية وتحسين الحالات، وما يلحق ذلك من المجاهدات والمكابدات، وبيده ما يتحفهم به في الآخرة، من التعريفات الجمالية، والفتوحات الربانية، والترقي في الكشوفات السرمدية‏.‏ فله الحمد في هذه العوالم الثلاثة؛ إذ كلها بيده، يخص بها مَن يشاء من عباده، مع غناه عن الكل، وإحاطته بالكل، ورحمته للكل‏.‏ يعلم ما يلج في أرض النفوس من الهواجس والخواطر، وما يعرج منها من الصغائر والكبائر، أو من الطاعة والإحسان من ذوي البصائر، وما ينزل من سماء الملكوت من العلوم والأسرار، وما يعرج فيها من الطاعات والأذكار، وهو الرحيم بالتقريب والإقبال، الغفور لمساوئ الضمائر والأفعال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 5‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏3‏)‏ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏4‏)‏ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ولا أصغر‏}‏ و‏{‏لا أكبر‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏مِثْقال‏}‏، أو‏:‏ مبتدأ، وخبره‏:‏ ما بعد الاستثناء‏.‏ و‏{‏ليجزي‏}‏‏:‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏لَتَأتينكم‏}‏، وتجويز ابن جزي تعلقه بيعزب بعيد؛ لأن الإحاطة بعلمه تعالى ذاتية، والذاتي لا يُعلل، وإنما تعلل الأفعال؛ لجوازها، ويصح تعلقه بما تعلق به ‏{‏في كتاب‏}‏ أي‏:‏ أحصى في كتاب مبين للجزاء‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا‏}‏ أي‏:‏ منكرو البعث‏.‏ والناطق بهذه المقالة أبو سفيان بن حرب، ووافق عليها غيره، وقد أسلم هو‏.‏ قالوا‏:‏ ‏{‏لا تأتينَا الساعةُ‏}‏ وإنما هي أرحام تدفع، وأرض تبلع‏.‏ قبَّح الله رأيهم، وأخلى الأرض منهم‏.‏ ‏{‏قلْ‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ أبطل مقالتهم الفاسدة ببلى، التي للإضراب، وأوجب ما بعدها، أي‏:‏ ليس الأمر إلا إتيانها، ثم أعيد إيجابه، مؤكداً بما هو الغاية في التوكيد والتشديد، وهو التوكيد باليمين بالله عزّ وجل، فقال‏:‏ ‏{‏وربي لَتأتينَّكم‏}‏‏.‏

ولمَّا كان قيام الساعة من الغيوب المستقبلية الحقية أتبعه بقوله‏:‏ ‏{‏عالم الغيبِ‏}‏، وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ «علاّم الغيب»، بالمبالغة، يعلم ما غاب في عالم ملكه وملكوته، ‏{‏لا يَعْزُبُ عنه‏}‏‏:‏ لا يغيب عن علمه ‏{‏مثقالُ ذرة‏}‏‏:‏ مقدار أصغر نملة ‏{‏في السماواتِ ولا في الأرض، ولا أصغرُ من ذلك‏}‏ أي‏:‏ من مثقال ذرة ‏{‏ولا أكبرُ إِلا في كتاب مبين‏}‏ في اللوح المحفوظ، أو في علمه القديم، وكنَّى عنه بالكتاب؛ لأن الكتاب يحصي ما فيه‏.‏

قال الغزالي، في عقيدة أهل السنة‏:‏ وأنه تعالى عالم بجميع المعلومات، محيط بما يجري من تخوم الأرض إلى أعلى السماوات، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، يعلم دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، ويُدرك حركة الذر في جو السماء، ويعلم السر وأخفى، ويطّلع على هواجس الضمائر، وحركات الخواطر، وخفيات السرائر، بعلم قديم أزلي، لم يزل موصوفاً به في أزل الأزل‏.‏ ه‏.‏

ثم علل إتيان الساعة بقوله‏:‏ ‏{‏ليجزيَ الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أولئك لهم مغفرةٌ‏}‏ لِما اقترفوا من العصيان، وما قصروا فيه من مدارج الإيمان، ‏{‏ورِزق كريم‏}‏ لِمَا صبروا عليه من مناهج الإحسان‏.‏ ‏{‏والذين سَعَوْا في آياتنا مُعَاجِزين‏}‏ بالإبطال وتعويق الناس عنها، ‏{‏أولئك لهم عذابٌ من رِجْزٍ أليم‏}‏ أي‏:‏ لهم عذاب من أقبح العذاب مؤلم‏.‏ ورفع «أليم» مكي وحفص ويعقوب، نعت لعذاب، وغيرهم بالجر نعت لرجز‏.‏ قال قتادة‏:‏ الرجز‏:‏ سُوء العذاب‏.‏

الإشارة‏:‏ بقدر ما يربو الإيمان في القلب يعظم الإيمان بالبعث وما بعده، حتى يكون نُصب عين المؤمن، لا يغيب عنه ساعة، فإذا دخل مقام العيان، استغرق في شهود الذات، فغاب عن الدارين، ولم يبقَ له إلا وجود واحد، يتلون بهيئة الدنيا والآخرة‏.‏ وفي الحقيقة ما ثَمَّ إلا واحد أحد، الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته‏.‏ كان الله ولا شيء معه، وهو الآن كما كان، ويكون في المآل كما هو الآن‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏ويرى‏}‏‏:‏ مرفوع، استئناف، أو منصوب، عطف على ‏{‏ليجزي‏}‏‏.‏ و‏{‏الحق‏}‏‏:‏ مفعول ثان ليرى العلمية‏.‏ والمفعول الأول‏:‏ ‏{‏الذي أُنزل‏}‏ وهو ضمير فصل‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ويَرَى الذين أُوتوا العلم‏}‏ من الصحابة، وممن شايعهم من علماء الأمة ومن ضاهاهم، أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا، كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، أي‏:‏ يعلمون ‏{‏الذي أُنزل إِليك من ربك‏}‏ يعني القرآن ‏{‏هو الحق‏}‏ لا يرتابون في حقيّته؛ لِما نطوى عليه من الإعجاز، وبموافقته للكتب السالفة، على يد مَن تحققت أميته‏.‏ أو‏:‏ ليجزي المؤمنين، وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق، علماً لا يزاد عليه في الإيقان، لكونه محل العيان، كما علموه في الدنيا من طريق البرهان‏.‏ ‏{‏ويهدي إِلى صراط العزيز الحميد‏}‏ وهو دينُ الله، من التوحيد، وما يتبعه من الاستقامة‏.‏

الإشارة‏:‏ أول ما يرتفع الحجاب عن العبد بينه وبين كلام سيده، فيسمع كلامه منه، لكن من وراء رداء الكبرياء، وهو رداء الحس والوهم، فيجد حلاوة الكلام ويتمتع بتلاوته، فيلزمه الخشوع والبكاء والرِقة عند تلاوته‏.‏ قال جعفر الصادق‏:‏ «لقد تجلّى الحق تعالى في كلامه ولكن لا تشعرون»‏.‏ ثم يرتفع الحجاب بينه وبين الحق تعالى، فيسمع كلامه بلا واسطة ولا حجاب، فتغيب حلاوة الكلام في حلاوة شهود المتكلم، فينقلب البكاء سروراً، والقبض بسطاً‏.‏ وعن هذا المعنى عبّر الصدِّيق عند رؤيته قوماً يبكون عند التلاوة، فقال‏:‏ «كذلك كنا ولكن قست القلوب» فعبّر عن حال التمكُّن والتصلُّب بالقسوة؛ لأن القلب قبل تمكُّن صاحبه يكون سريعَ التأثُّر للواردات، فإذا تمكّن واشتد لم يتأثر بشيء‏.‏ وصراط العزيز الحميد هو طريق السلوك إلى حضرة ملك الملوك‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏7‏)‏ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ‏(‏8‏)‏ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ‏(‏9‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إذا‏}‏‏:‏ العامل فيه محذوف، دلّ عليه‏:‏ ‏{‏لفي خلق جديد‏}‏‏.‏ و‏{‏مُمَزَّقٍ‏}‏‏:‏ مصدر، أي‏:‏ تجددون إذا مزقتم كل تمزيق، و‏{‏جديد‏}‏‏:‏ فعيل بمعنى فاعل، عند البصريين‏.‏ تقول‏:‏ جَدَّ الثوب فهو جديد، أو بمعنى مفعول، كقتيل، من جد النساج الثوب‏:‏ قطعه‏.‏ ولا يجوز فتح ‏{‏إنكم‏}‏ للاّم في خبره‏.‏ و‏{‏أَفْترى‏}‏‏:‏ الهمزة للاستفهام، وحذفت همزة الوصل للآستغناء عنها‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا‏}‏ من منكري البعث‏:‏ ‏{‏هل نَدلُّكم على رجلٍ‏}‏ يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم، وإنما نكّروه مع أنه كان مشهوراً عَلَماً في قريش، وكان إنباؤه بالبعث شائعاً عندهم تجاهلاً به وبأمره‏.‏ وباب التجاهل في البلاغة معلوم، دال على سِحْرها، ‏{‏يُنَبئُكم إِذا مُزِّقْتمْ كلَّ مُمزَّقٍ إِنكم لفي خلقٍ جديدٍ‏}‏ أي‏:‏ يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب، إنكم تُبعثون وتنشئون خلقاً جديداً، بعد أن تكونوا رفاتاً وتراباً، وتمزق أجسادكم بالبلى، كل تمزيق، وتفرقون كل تفريق، ‏{‏افْترَى على الله كذباً‏}‏ أي‏:‏ أهو مفترٍ على الله كذباً فيما يُنسب إليه من ذلك‏؟‏ ‏{‏أم به جِنَّة‏}‏ جنون توهمه ذلك، وتلقيه على لسانه‏.‏ واستدلت المعتزلة بالآية على أن بين الصدق والكذب واسطة، وهو كل خبر لا يكون عن بصيرة بالمخبر عنه، وأجيب‏:‏ بأن الافتراء أخص من الكذب، لاختصاص الافتراء بالتعمُّد، والكذب أعم‏.‏ وكأنه قيل‏:‏ أتعمّد الكذب أو لم يتعمّد بل به جنون‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلالِ البعيدِ‏}‏ أي‏:‏ ليس محمد من الافتراء والجنون في شيء، وهو منزّه عنهما، بل هؤلاء الكفرة، المنكرون للبعث، واقعون في عذاب النار، وفيما يؤديهم إليه من الضلال البعيد عن الحق، بحيث لا يرجى لهم الخلاص منه، وهم لا يشعرون بذلك، وذلك أحق بالجنون‏.‏ جُعل وقوعهم في العذاب رسيلاً لوقوعهم في الضلال، مبالغة في استحقاقهم له، كأنهما كائنان في وقتٍ واحد؛ لأن الضلال، لمّا كان العذاب من لوازمه، جُعلا كأنهما مقترنان‏.‏ ووَصْف الضلال بالبعيد من الإسناد المجازي؛ لأنَّ البعيد في صفة الضالّ إذا بَعُدَ عن الجادة‏.‏

‏{‏أفلم يَرَوا إِلى ما بين أيديهم وما خلفَهُم من السماءِ والأرض إِن نشأ نَخْسِفُ بهم الأرضَ أو نُسْقِطْ عليهم كِسَفاً من السماء‏}‏ أي‏:‏ أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض، وأنهما أينما كانوا، وحيثما ساروا، وجدوهما أمامهم وخلفهم، محيطتان بهم، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما، وأن يخرجوا عما هم فيه، من ملكوت الله، ولم يخافوا أن يخسفَ الله بهم في الأرض، أو يسقط عليهم ‏{‏كِسفاً‏}‏ قطعة، أو قطعاً من السماء بتكذيبهم الآيات، وكفرهم بما جاء به الرسول، كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة‏.‏

وقرأ حمزة والكسائي «يخسف»، و«يسقط» بالياء؛ لعود الضمير على ‏(‏الله‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏أَفترى على الله‏}‏، وقرأ حفص‏:‏ «كَسَفاً» بالتحريك، جمعاً‏.‏

‏{‏إِن في ذلك لآيةً‏}‏ إن في النظر إلى السماء والأرض والتفكُّر فيهما، وما يدلان عليه من كمال قدرته تعالى لدلالةً ظاهرة على البعث والإنشاء من بعد التفريق، ‏{‏لكل عبدٍ مُّنِيب‏}‏ راجع بقلبه إلى ربه، مطيع له تعالى، إذ المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله، فيعتبر، ويعلم أن مَن قدر على إنشاء هذه الأجرام العظام، قادر على إحياء الأموات وبعثها، وحسابها وعقابها‏.‏

الإشارة‏:‏ يقول شيوخ التربية‏:‏ بقدر ما يمزق الظاهر بالتخريب والإهمال؛ يحيى الباطن ويعمر بنور الله، وبقدر ما يعمر الظاهر يخرب الباطن، فيقع الإنكار عليهم، ويقول الجهلة‏:‏ هل ندلكم على رجل يُنبئكم إذا مُزقتم في الظاهر كل مُمَزقٍ، يُجدد الإيمان والإحسان في بواطنكم، أَفْترى على الله كذباً أم به جِنة‏؟‏ بل الذين لا يؤمنون بالنشأة الآخرة وهي حياة الروح بمعرفة الله في عذاب الحجاب والضلال، عن معرفة العيان بعيد، ما داموا على ذلك الاعتقاد، ثم يهددون بما يُهدد به منكرو البعث‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ثم ذكر تعالى نعمته على داود وسليمان، احتجاجاً على ما منح محمد عليه الصلاة والسلام من الرسالة والوحي، ردًّا لقولهم‏:‏ ‏{‏أَفترى على الله كذباً‏}‏، ودلالة على قدرته تعالى على البعث وغيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ‏(‏10‏)‏ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏يا جبال‏}‏‏:‏ بدل من ‏{‏فضلاً‏}‏، أو يقدر‏:‏ وقلنا‏.‏ و‏{‏الطير‏}‏‏:‏ عطف على محل الجبال، ومَن رفعه فعلى لفظه‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد آتينا داودَ منا فضلاً‏}‏ أي‏:‏ مزية خُصّ بها على سائر الأنبياء، وهو ما جمع له من النبوة، والمُلك، والصوت الحسن، وإلانة الحديد، وتعلم صنعة الزرد، وغير ذلك مما خُص به، أو‏:‏ فضلاً على سائر الناس بما ذكر، وقلنا‏:‏ ‏{‏يا جبالُ أوّبي معه‏}‏ رَجّعي معه التسبيح‏.‏ ومعنى تسبيح الجبال معه‏:‏ أن الله تعالى يخلق فيها تسبيحاً، فيسمع منها كما يسمع من المسبّح، معجزة لداود عليه السلام، فكان إذا تخلّل الجبال وسبّح؛ جاوبته الجبال بالتسبيح، نحو ما سبّح به‏.‏ وهو من التأويب، أي‏:‏ الترجيع، وقيل‏:‏ من الإياب بمعنى الرجوع، أي‏:‏ ارجعي معه بالتسبيح‏.‏ ‏{‏والطيرَ‏}‏ أي‏:‏ أوبي معه، أو‏:‏ وسخرنا له الطير تؤوب معه‏.‏ قال وهب‏:‏ فكان داود إذا نادى بالنياحة على نفسه، من أجل زلته، أجابته الجبال بصداها، وعكفت الطير عليه من فوقه، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس منها هو من ذلك اليوم‏.‏

قال القشيري‏:‏ يُقال أوحى الله إلى داود عليه السلام‏:‏ كانت تلك الزلة مباركة عليك، فقال‏:‏ يا رب؛ وكيف تكون الزلة مباركة‏؟‏ فقال‏:‏ كُنتَ تجيء بأقدار المطيعين، والآن تجيء بانكسار المذنبين، يا داود أنين المذنبين أحب إليّ من صراخ العابدين‏.‏ ه‏.‏ مختصراً‏.‏ وفي هذا اللفظ من قوله‏:‏ ‏{‏يا جبال أوبي معه‏}‏ من الفخامة ما لا يخفى، حيث جُعلت الجبال بمنزلة العقلاء؛ الذين إذا أمرهم بالطاعة أطاعوا، وإذا دعاهم أجابوا، إشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد إلا وهو منقادٌ لقدرة الله تعالى ومشيئته‏.‏ ولو قال‏:‏ آتينا داود منا فضلاً تأويب الجبال معه والطير؛ لم يكن فيه هذه الفخامة‏.‏

‏{‏وألنّا له الحديدَ‏}‏ أي‏:‏ جعلناه له ليناً، كالطين المعجون، يصرفه بيده كيف يشاء، من غير نار ولا ضرب بمطرقة، قيل‏:‏ سبب لينه له‏:‏ أنه لما مَلك بني إسرائيل، وكان من عادته أن يخرج متنكراً، ويسأل كل مَن لقيه‏:‏ ما يقول الناس في داود‏؟‏ فيثنون خيراً، فلقي ملكاً في صورة آدمي، فسأله، فقال‏:‏ نِعْمَ الرجل، لولا خصلة فيه‏:‏ يأكل ويطعم عياله من بيت المال، فتنبّه، وسأل الله تعالى أن يسبب له سبباً يُغنيه عن بيت المال، فألان له الحديد مثل الشمع، وعلّمه صنعة الدروع، وهو أول مَن اتخذها‏.‏ وكانت قبل ذلك صفائح‏.‏

ويقال‏:‏ كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف، فيأكل ويُطعم عياله، ويتصدّق على الفقراء والمساكين‏.‏ وقيل‏:‏ كان يلين له ولمَن اشتغل معه له، قُلت‏:‏ ذكر ابن حجر في شرح الهمزية أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان إذا وطىء على صخرة أثر فيها قدمه، وهذا أبلغ من إلانة الحديد؛ لأن لين الحجارة لا يعرف بنار، ولا بغيرها، بخلاف الحديد‏.‏

ه‏.‏ وقيل‏:‏ لأن لين الحديد في يد داود عليه السلام لِما أُولي من شدة القوة‏.‏

وأمرناه ‏{‏أنِ اعمل سَابِغاتٍ‏}‏ أي‏:‏ دروعاً واسعةً تامة، من‏:‏ السبوغ، بمعنى الإطالة، ‏{‏وقدِّر في السَّردِ‏}‏ لا تجعل المسامير دقاقاً فيقلق، ولا غلاظاً فتنكسر الحلَق، أو تؤذي لابسها‏.‏ والتقدير‏:‏ التوسُّط في الشيء، والسرد‏:‏ صنعة الدروع، ومنه قيل لصانعه‏:‏ السراد والزراد‏.‏ ‏{‏واعملوا صالحاً‏}‏ شكراً لما أسدي إليكم‏.‏ والضمير لداود وأهله‏.‏ والعمل الصالح‏:‏ ما يصلح للقبول؛ لإخلاصه وإتقانه، ‏{‏إِنِّي بما تعملون بصير‏}‏ فأجازيكم عليه‏.‏

الإشارة‏:‏ الفضل الذي أُوتيه داود عليه السلام هو كشف الحجاب بينه وبين الكون، فلما شهد المكون، كانت الأكوان معه‏.‏ «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك»‏.‏ ولا يلزم من كونها معه في المعنى، بحيث تتعشّق له وتهواه، أي‏:‏ تنقاد كلها له في الحس، بل ينقاد إليه منها ما يحتاج إليه، حسبما تقتضيه الحكمة، وتسبق به المشيئة، فسوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأَلَنَّا له الحديدَ‏}‏ في الظاهر‏:‏ الحديد الحسي، وفي الباطن‏:‏ القلوب الصلبة كالحديد، فتلين لوعظه بالإيمان والمعرفة‏.‏ وكذا في حق كل عارف تلين لوعظه القلوب، وتقشعر من كلامه الجلود‏.‏ وهو أعظم نفعاً من لين الحديد الحسي‏.‏ ويقال له‏:‏ أن اعمل سابغاتٍ، أي‏:‏ دروعاً تامة، يتحصّن بها من الشيطان والهوى، وهو ذكر الله، يستعمله ويأمر به، ذكراً متوسطاً، من غير إفراط ممل، ولا تفريط مخل‏.‏ فإذا انتعش الناس على يده كَبُرَ قدره عند ربه، فيؤمر بالشكر، وهو قوله‏:‏ ‏{‏واعملوا صالحاً إِني بما تعملون بصير‏}‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏12‏)‏ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ «الريح»‏:‏ مفعول بمحذوف، أي‏:‏ وسخرنا له الريح، ومَن رفعه؛ فمبتدأ تقدّم خبره‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏و‏}‏ سخرنا ‏{‏لسليمانَ الريحَ‏}‏ وهي الصبا، ‏{‏غُدُوُّها شهرٌ ورَوَاحُهَا شهرٌ‏}‏ أي‏:‏ جريها بالغد مسيرة شهر، إلى نصف النهار، وجريها بالعشي كذلك‏.‏ فتسير في يوم واحد مسيرة شهرين‏.‏ وكان يغدو من دمشق، مكان داره، فيقيل بإصطخر فارس، وبينهما مسيرة شهر، ويروح من إصطخر فيبيت بكابُل، وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع‏.‏ وقيل‏:‏ كان يتغذّى بالريّ، ويتعشّى بسمرقند‏.‏ وعن الحسن‏:‏ لَمَّا عقر سليمان الخيل، غضباً لله تعالى، أبدله الله خيراً منها الريح، تجري بأمره حيث شاء، غدوها شهر ورواحها شهر‏.‏ ه‏.‏

قال ابن زيد‏:‏ كان لسليمان مركب من خشب، وكان فيه ألف ركن، في كل ركن ألف بيت معه، فيه الجن والإنس، تحت كل ركن ألف شيطان، يرفعون ذلك المركب، فإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فتسير به وبهم‏.‏ قلت‏:‏ وقد تقدّم أن العاصفة هي التي ترفعه، والرخاء تسير به، وهو أصح‏.‏ ثم قال‏:‏ فتقيل عند قوم، وتُمسي عند قوم، وبينهما شهر، فلا يدري القوم إلا وقد أظلّهم، معه الجيوش‏.‏

ويُروى أن سليمان سار من أرض العراق، فقال بمدينة مرو، وصلّى العصر بمدينة بلخ، تحمله الريح، وتظله الطير، ثم سار من بلخ متخللاً بلاد الترك، ثم سار به إلى أرض الصين، ثم عطف يُمنة على مطلع الشمس، على ساحل البحر، حتى أتى أرض فارس، فنزلها أياماً، وغدا منها فقال بكسكر، ثم راح إلى اليمن، وكان مستقره بها بمدينة تدْمُر، وقد كان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق، فبنوها له بالصفاح، والعُمد، والرخام الأبيض والأصفر‏.‏ ه‏.‏

قلت‏:‏ وذكر أبو السعود في سورة «ص» أنه غزا بلاد المغرب الأندلسي وطنجة وغيرهما، والله تعالى أعلم‏.‏ ووُجدت هذه الأبيات منقورة في صخرة بأرض كسكر، أنشأها بعض أصحاب سليمان عليه السلام‏:‏

وَنَحْنُُ ولا حَوْلَ سِوََى حَوْلِ رَبّّنا *** نَرُوحُ إلى الأَوْطَانِ من أرضِ كسْكَر

إذ نَحْنُ رُحْنا كان رَيْثُ رَوَاحنا *** مسِيرة شهرٍ والغدو لآخرِ

أُناسٌ أعزَّ اللهُ طوعاً نفوسَهُم *** بنصر ابن داودَ النبيِّ المُطَهَّر

لَهُمْ في مَعَالِي الدِّين فَضْلٌ ورفعةٌ *** وإن نُسِبُوا يوماً فَمِنْ خَيْر مَعْشَر

متى يركب الريحَ المُطِيعةَ أسرَعَتْ *** مُبَادِرةً عن شهرهَا لم تُقَصِّر

تُظِلُّهُم طيْرٌ صُفُوفٌ عَلَيْهِمُ *** مَتى رَفْرَفَتْ مِن فوقِهِمْ لمْ تُنْفرِ

قال القشيري‏:‏ وفي القصة أنه لاحظ يوماً مُلْكَه، فمال الريحُ، فقال له‏:‏ استوِ، فقال له ما دمت أنت مستوياً بقلبك كنتُ مستوياً لك، فحيث مِلْتَ مِلتُ‏.‏ ه‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وأسَلْنَا له عينَ القِطْرِ‏}‏ أي‏:‏ معدن النحاس‏.‏ والقطر‏:‏ النحاس، وهو الصُفر، ولكنه أذابه له، وكان يسيل في الشهر ثلاثة أيام، كما يسيل الماء‏.‏

وكان قبل سليمان لا يذوب‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كانت تسيل له باليمن عين من نحاس، يصنع منها ما أحب‏.‏ وقيل‏:‏ القطر‏:‏ النحاس والحديد، وما جرى مجرى ذلك، كان يسيل له منه عيون‏.‏ وقيل‏:‏ ألانه كما ألان الحديد لأبيه، وإنما ينتفع الناسُ اليوم بما أجرى الله تعالى لسليمان، كما قيل‏.‏

‏{‏و‏}‏ سخرنا له ‏{‏من الجنِّ من يعملُ بين يديه‏}‏ ما يشاء ‏{‏بإِذنِ ربه‏}‏ أي‏:‏ بأمر ربه، ‏{‏ومن يزغْ منهم عن أمرنا‏}‏ أي‏:‏ ومَن يعدل منهم عن أمرنا الذي أمرنا به من طاعة سليمان ‏{‏نُذقه من عذاب السعير‏}‏ عذاب الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ كان معه ملك بيده سوط من نار، فمَن زاغ عن طاعة سليمان ضربه بذلك ضربة أحرقته‏.‏

‏{‏يعملون له ما يشاءُ من محَاريبَ‏}‏ أي‏:‏ مساجد، أو مساكن وقصور، والمحراب‏:‏ مقدم كل مسجد ومجلس وبيت‏.‏ ‏{‏وتماثيلَ‏}‏ صور الملائكة والأنبياء، على ما اعتادوا من العبادات، ليراها الناس، فيعبدوا نحو عبادتهم‏.‏ صنعوا له ذلك في المساجد، ليجتهد الناس في العبادة‏.‏ أو‏:‏ صور السباع والطيور، رُوي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كُرسيه، ونسْريْن فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسطَ الأسدان له ذرَاعيهما، وإذا قعد أظلّه النسران بأجنحتهما‏.‏ وكان التصوير مباحاً‏.‏ ‏{‏وجِفانٍ‏}‏ وصحاف، جمع‏:‏ جفنة، وهي القصعة، ‏{‏كالجَوَاب‏}‏ جمع جابية، وهي الحياض الكبار‏.‏ قيل‏:‏ كان يقعد على الجفنة ألف رجل، يأكون بين يديه، ‏{‏وقدور راسياتٍ‏}‏ ثابتات على الأثافي، لا تنزل؛ لِعظمها، ولا تعطل؛ لدوام طبخها‏.‏ وقيل‏:‏ كان قوائمها من الجبال، يصعد إليها بالسلالم، وقيل‏:‏ باقية باليمن‏.‏

وقلنا‏:‏ ‏{‏اعملوا آلَ داودَ شُكراً‏}‏ أي‏:‏ اعملوا بطاعة الله، واجهدوا أنفسكم في عبادته، شكراً لِما أولاكم من نعمه‏.‏ قال ثابت‏:‏ كان داود جزأ ساعات الليل والنهار على أهله، فلم تكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يُصلّي‏.‏ ه‏.‏

وقال سعيد بن المسيب‏:‏ لما فرغ سليمان من بيت المقدس انغلقت أبوابه، فعالجها، فلم تنفتح، حتى قال‏:‏ بصلوات آل داود إلا فُتحت الأبواب، ففتحت، ففرغ له سليمان عشرة آلاف من قراء بني إسرائيل؛ خمسة آلاف بالليل، وخمسة آلاف بالنهار، فلا تأتي ساعة من ليل ولا نهار إلا والله عزّ وجل يُعبد فيها‏.‏ ه‏.‏ وعن الفضيل‏:‏ ‏{‏اعملوا آل داود‏}‏ أي‏:‏ ارحموا أهل البلاء، وسلوا ربكم العافية‏.‏

و ‏{‏شكراً‏}‏‏:‏ مفعول له، أو حال، أي‏:‏ شاكرين، أو مصدر، أي‏:‏ اشكروا شكراً؛ لأن «اعملوا» فيه معنى اشكروا، من حيث إن العمل للنعم شكرٌ، أو‏:‏ مفعول به، أي‏:‏ إنَّا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم، فاعملوا أنتم شكراً‏.‏

‏{‏وقليل من عباديَ الشكورُ‏}‏ يحتمل أن يكون من تمام الخطاب لداود عليه السلام، أو خطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم‏.‏

والشكور‏:‏ القائم بحق الشكر، الباذل وسعه فيه، قد شُغل به بقلبه ولسانه وجوارحه في أكثر أوقاته، اعتقاداً واعترافاً وكدحاً‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ هو مَن يشكر على أحواله كلها‏.‏ وقيل‏:‏ مَن شكر على الشكر، ومَن يرى عجزه عن الشكر‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ لأن توفيقه للشكر نعمة، فتقتضي شكراً آخر، لا إلى نهاية، ولذلك قيل‏:‏ الشكور مَن يرى عجزه عن الشكر‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ وسخرنا لسليمان ريح الهداية، تهب بين يديه، يُهتدى به مسيرة شهر وأكثر، وأسلنا لوعظه وتذكيره العيون الجامدة، فقطرت بالدموع خُشوعاً وخضوعاً‏.‏ وكل مَن أقبل على الله بكليته سخرت له الكائنات، جنها وإنسها، يتصرف بهمته فيها‏.‏ فحينئذ يقال له ما قيل لآل داود‏:‏ اعملوا آل داود شكراً‏.‏ قال الجنيد‏:‏ الشكر‏:‏ بذل المجهود بين يدي المعبود‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ الشكر ألا يُعصى الله بنعمه‏.‏

والشكر على ثلاثة أوجه‏:‏ شكر بالقلب، وشكر باللسان، وشكر بسائر الأركان‏.‏ فشكر القلب‏:‏ أن يعتقد أن النعم كلها من الله، وشكر اللسان‏:‏ الثناء على الله وكثرة المدح له، وشكر الجوارح‏:‏ أن يعمل العمل الصالح‏.‏ وسئل أبو حازم‏:‏ ما شكر العينين‏؟‏ قال‏:‏ إذا رأيت بهما خيراً أعلنته، وإذا رأيت بهما شرًّا سترته، قيل‏:‏ فما شكر الأذنين‏؟‏ قال‏:‏ إذا سمعت بهما خيراً وعيته، وإذا سمعت بهما شرًّا دفنته، قيل‏:‏ فما شكر اليدين‏؟‏ قال‏:‏ ألا تأخذ بهما ما ليس لك، ولا تمنع حقًّا هو لله فيهما، قيل‏:‏ فما شكر البطن‏؟‏ قال‏:‏ أن يكون أسفلُه صبراً، وأعلاه علماً، قيل‏:‏ فما شكر الفرج‏؟‏ قال‏:‏ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 5‏]‏ الآية، قيل‏:‏ فما شكر الرجلين‏؟‏ قال‏:‏ إن رأيت شيئاً غبطته استعملتهما، وإن رأيت شيئاً مقته كفقتهما‏.‏ ه‏.‏

والناس في الشكر درجات‏:‏ عوام، وخواص، وخواص الخواص‏.‏ فدرجة العوام‏:‏ الشكر على النِّعم، ودرجة الخواص‏:‏ الشكر على النِّعم والنقم، وعلى كل حال، ودرجة خواص الخواص‏:‏ أن يغيب عن النِعم بمشاهدة المُنعم‏.‏ قال رجل لإبراهيم بن أدهم‏:‏ إن الفقراء إذا أُعطوا شكروا، وإذا مُنعوا صبروا، فقال‏:‏ هذه أخلاق الكلاب عندنا، ولكن الفقراء إذا مُنعوا شكروا، وإذا أُعطوا آثروا‏.‏ ه‏.‏

وهذان الآخران يصدق عليهما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقليل من عبادي الشكور‏}‏، وخصه القشيري بالقسم الثالث، فقال‏:‏ فكان الشاكر يشكر على البَذْلِ، والشكور على المنع، فكيف بالبذل‏؟‏ ثم قال‏:‏ ويقال في ‏{‏قليل من عبادي الشكور‏}‏‏:‏ قليل مَن يأخذ النعمة مني، فلا يحملها على الأسباب، فيشكر الوسائط ولا يشكرني‏.‏ وفي الحِكَم‏:‏ «مَن لم يشكر النعم فقد تعرّض لزوالها، ومَن شكرها فقد قيّدها بعقالها»‏.‏ فالشكر قيد الموجود، وصيد المفقود‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فلما قَضَيْنَا عليه‏}‏ على سليمان ‏{‏الموتَ ما دلّهم‏}‏ أي‏:‏ الجن وآل داود ‏{‏على موته إِلا دابةُ الأرض‏}‏ أي‏:‏ الأرضة، وهي دويبة تأكل الخشب، ويقال‏:‏ لها، سُرْفةَ والقادح‏.‏ والأرض هنا مصدر‏:‏ أرَضَتِ الخشبة، بالبناء للمفعول، أرَضَّا‏:‏ أكلتها الأرضة‏.‏ فأضيفت إلى فعلها وهو الأرض، أي‏:‏ الأكل‏.‏ ‏{‏تأكل مِنْسَأَتَهُ‏}‏ أي‏:‏ عصاه، سميت منسأة؛ لأنها تنسى، أي‏:‏ تطرح ويُرْمى بها‏.‏ وفيها لغتان؛ الهمز وعدمه، فقرأ نافع وأبو عمرو بترك الهمز، وعليه قول الشاعر‏:‏

إِذا دَبَبْتُ على المِنسَاةِ مِن كِبَرٍ *** فَقَد تَبَاعَدَ عَنْكَ اللهْوُ والغَزلُ

وقرأ غيرهما بالهمز، وهو أشهر‏.‏

‏{‏فلما خرّ‏}‏ سقط سليمانُ ‏{‏تبينتِ الجنُّ‏}‏ أي‏:‏ تحققت وعلمت علماً يقيناً، بعد التباس الأمر على عامتهم وضعفتهم، ‏{‏أن لو كانوا يعلمون الغيبَ ما لبثوا‏}‏ بعد موت سليمان ‏{‏في العذاب المهين‏}‏ في العمل الشاق له، لظنهم حياته، فلو كانوا يعلمون الغيب كما زعموا لعلموا موته‏.‏

وذلك أن داود عليه السلام أسس بيت المقدس، في موضع فسطاط مُوسى عليه السلام، فمات قبل أن يتمه، فوصّى به إلى سليمان، فأمر الشياطين بإتمامه‏.‏ فلما بقي من عمره سنة، سأل الله تعالى أن يعمّي عليهم موته حتى يفرغوا، ولتبطل دعواهم علم الغيب‏.‏ وكان عمر سليمان ثلاثاً وخمسين سنة‏.‏ وملك وهو ابنُ ثلاث عشرة سنة‏.‏ فبقي في ملكه أربعين سنة، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ فبنى سليمان المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر، وعمَّره بأساطين المها الصافي، وسقفه بأنواع الجواهر، وفضض سقوفه وحيطانه باللآلىء، وسائر أنواع الجواهر، وبسط أرضه بألواح الفيروزج، فلم يكن في الأرض أبهى ولا أنور من ذلك المسجد‏.‏ كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر‏.‏ ومن أعاجيب ما اتخذ في بيت القدس، أن بنى بيتاً وطيّن حائطه بالخضرة، وصقله، فإذا دخله الوَرعُ البار استبان فيه خياله أبيض، وإذا دخله الفاجر استبان فيه خياله أسود، فارتدع كثير من الناس عن الفجور‏.‏

قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لما فرغ سليمانُ من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثاً، فأعطاه اثنتين، وأن أرجو أن يكون قد أعطاه الثالثة، سأله حُكماً يُصادفُ حُكْمَه، فأعطاه إياه، وسأله مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فأعطاه إياه، وسأله ألا يأتي أحد هذا البيت يُصلي فيه ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك» ه‏.‏

فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان عليه السلام حتى خرّبه بخت نصر، وأخذ ما كان فيه من الذهب والفضة واليواقيت، وحمله إلى دار مملكته من العراق‏.‏

ثم قال‏:‏ قال المفسرون‏:‏ كان سليمان ينفرد في بيت المقدس السنة والسنتين، والشهر والشهرين، يدخل فيه طعامه وشرابه، فدخله في المرة التي مات فيها‏.‏

وكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا نبتت في بيت المقدس شجرة، فيسألها‏:‏ ما اسمك‏؟‏ فتقول الشجرة‏:‏ اسمي كذا، فيأمر بها فنقطع، فإن كانت لغرس غرسها، وإن كانت لدواء كُتبت‏.‏ فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه، فقال لها‏:‏ ما اسمك‏؟‏ قالت‏:‏ الخروبة، قال لها‏:‏ ولأي شيء نَبَتِّ‏؟‏ قالت‏:‏ لخراب هذا المسجد، فقال‏:‏ ما كان الله ليخربه وأنا حيّ، أنت التي على وجهك هلاكي، وهلاك بيت المقدس، فنزعها وغرسها في حائط، ثم قال‏:‏ اللهم أعم عن الجن موتي، حتى يعلم الإنسُ أن الجن لا يعلمون الغيب‏.‏ وكانت الجن تُخبر الإنس أنهم يعلمون أشياء من علم الغيب، ثم دخل المحراب، وقام يصلي على عصاه، فمات‏.‏

وقيل‏:‏ إن سليمان قال لأصحابه ذات يوم‏:‏ قد آتاني الله ما ترون، وما مرّ عليَّ يوم في ملكي بحيث صفا لي من الكدر، وقد أحببتُ أن يكون لي يوم واحد يصفو لي من الكدر، فدخل قصره من الغد، وأمر بغلق أبوابه، ومنع الناس من الدخول عليه، ورفْعِ الأخبار إليه‏.‏ ثم اتكأ على عصاه ينظر في ممالكه، إذ نظر إلى شاب حسن الوجه، عليه ثياب بيض، قد خرج عليه من جوانب قصره، فقال‏:‏ السلام عليك يا سليمان، فقال‏:‏ عليك السلام، كيف دخلت قصري‏؟‏ فقال‏:‏ أنا الذي لا يحجبني حاجب، ولا يدفعني بوّاب، ولا أهاب الملوك، ولا أقبل الرشا، وما كنتُ لأدخل هذا القصر من غير إذن‏.‏ فقال سليمان‏:‏ فمَن أَذِنَ لك في دخوله‏؟‏ قال‏:‏ ربه، فارتعد سليمان، وعَلِمَ أنه ملك الموت، فقال‏:‏ يا ملك الموت هذا اليوم الذي أردتُ أن يصفو لي، قال‏:‏ يا سليمان ذلك اليوم لم يخلق في أيام الدنيا، فقبض روحه وهو متكىء على عصاه‏.‏ ه‏.‏

وفي رواية‏:‏ أنه دعا الشياطين، فبنوا له صرحاً من قوارير، ليس له باب، فقام يُصلي، واتكأ على عصاه، فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه‏.‏ والله تعالى أعلم أيّ ذلك كان‏.‏ وبقي سليمان ميتاً، وهو قائم على عصاه سنة، حتى أكلت الأَرَضةَ عصاه‏.‏ ولم يعلموا منذ كم مات، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت منها يوماً وليلة، ثم حسبوا على ذلك النحو، فوجدوه قد مات منذ سنة‏.‏ سبحان الحي الذي لا يموت، ولا ينقضي ملكه‏.‏

الإشارة‏:‏ كل دولة في الدنيا تحول، وكل عز فيها عن قريب يزول، فالعاقل مَن صرف دولته في طاعة مولاه، وبذل جهده في محبته ورضاه، فإن كانت قسمته في الأغنياء كان من الشاكرين، وإن كانت في الفقراء كان من الصابرين، والفقير الصابر أحظى من الغني الشاكر، ولذلك ورد أن سليمان عليه السلام آخر مَن يدخل الجنة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وعبد الرحمن بن عوف آخر مَن يدخلها من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين‏.‏ والغني الشاكر هو الذي يُعطي ولا يُبالي، ويتواضع للكبير والصغير، والوجيه والحقير، والفقير الصابر هو الذي يغتبط بفقره، ويكتمه عن غيره‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 17‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ‏(‏15‏)‏ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ‏(‏16‏)‏ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏لسبأ‏}‏ فيه الصرف، بتأويل الحي، وعدمه، بتأويل القبيلة‏.‏ و‏{‏مسكنهم‏}‏، مَن قرأ بالإفراد وفتح الكاف على القياس في الاسم والمصدر، كمدخَل، ومَن كسره فلغة، والسماع في المصدر كمسجِد‏.‏ و‏{‏جنتان‏}‏ بدل من ‏{‏آية‏}‏ أو‏:‏ خبر عن مضمر، أي‏:‏ هي جنتان‏.‏ و‏{‏أُكل خَمْطٍ‏}‏، فمَن أضافه فإضافة الشيء إلى جنسه، كثوب خز، ومَن نوّنه قطعه عن الإضافة، وجعله عطف بيان‏.‏ أو صفة، بتأويل خمطٍ ببشيع‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏لقد كان لسبأٍ‏}‏ سُئل صلى الله عليه وسلم أرجلاً كان أو امرأة، أو أرضاً أو جبلاً أو وادياً، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «هو رجل من العرب، ولد عشرة من الولد، فتيامن ستةٌ، وتشاءم أربعةٌ‏:‏ فالذين تيامنوا كثرة، فكندة، والأشعريون، والأزد، ومذحج، وأنمارُ، وحميرُ، فقال رجل‏:‏ مَن أنمار يا رسول الله‏؟‏ قال منهم خَثْعَمُ وبَجِيلَةُ‏.‏ والذين تشاءموا‏:‏ عاملة، وجذام، ولخم، وغسان»

قلت‏:‏ وسبأ هو ابن يشخب بن يعرب بن قحطان‏.‏ واختلف في قحطان، فقيل‏:‏ هو ابن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح‏.‏ وقيل‏:‏ هو أخو هود عليه السلام‏.‏ وقيل‏:‏ هو هود، بنفسه، وإن هوداً هو ابن عبدالله بن رباح، لا ابن عابر، على الأصح‏.‏ فهو على هذا القول ابن أرم بن سام‏.‏ وقيل‏:‏ قحطان من ولد إسماعيل، فهو ابن أيمن بن قيذر بن إسماعيل‏.‏ وقيل‏:‏ هو ابنُ الهميسع بن أيمن‏.‏ وبأيمن سميت اليمن، وقيل‏:‏ لأنها عن يمين الكعبة‏.‏ هذا والعربُ كلها يجمعها أصلان‏:‏ عدنان وقحطان، فلا عربي في الأرض إلا وهو ينتهي إلى أحدهما، فيقال‏:‏ عدناني أو قحطاني‏.‏

ومَن جعل العرب كلها من ولد إسماعيل مرّ على أن قحطان من ذرية إسماعيل، كما تقدّم، واختلف في خزاعة، فقيل‏:‏ قحطانية، وقيل‏:‏ عدنانية، وأن جدهم عمرو بن لحي، وأما الأوس والخزرج فهما من ذرية سبأ، نزلت يثرب، بعد سيل العرم، كما يأتي‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏لقد كان لسبأٍ في مسكنهم‏}‏ أي‏:‏ في بلدهم، أو أرضهم، التي كانوا مقيمين فيها باليمن، ‏{‏آيةٌ‏}‏ دالة على وحدانيته تعالى، وباهر قدرته، وإحسانه، ووجوب شكر نعمه، وهي‏:‏ ‏{‏جنتانِ‏}‏ أي‏:‏ جماعة من البساتين، ‏{‏عن يمينٍ‏}‏ واديهم، ‏{‏وَشِمَالٍ‏}‏ وعن شماله‏.‏ وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتصافها كأنها جنة واحدة، كما يكون في بساتين البلاد العامرة‏.‏ قيل‏:‏ كان الناس يتعاطون ذلك على جَنْبتي الوادي، مسيرة أربعين يوماً، وكلها تُسقى من ذلك الوادي؛ لارتفاع سده‏.‏ أو‏:‏ أراد بُسْتانين، لكل رجل بستان عن يمين داره، وبستان عن شماله‏.‏ ومعنى كونهما آية‏:‏ أن أهلها لَمّا أعرضوا عن شكر النعم سلبهم الله النعمة، ليعتبروا ويتَعظوا، فلا يعودوا لِمَا كانوا عليه من الكفر وغمط النعم، فلما أثمرت البساتين؛ قلنا لهم على لسان الرسل المبعوثين إليهم، أو بلسان الحال، أو هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك‏:‏ ‏{‏كُلُوا من رزق ربكم واشكرُوا له‏}‏ بالإيمان والعمل الصالح، ‏{‏بلدةٌ طيبةٌ‏}‏ أي‏:‏ هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة، ‏{‏وربُّ غفور‏}‏ أي‏:‏ وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم ربٌّ غفور لمَن شكره‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ كانت سبأ على ثلاثة فراسخ من صنعاء، وكانت أخصب البلاد، فتخرج المرأة على رأسها المكتل، وتسير بين تلك الشجر، فيمتلىء المِكْتَل مما يتساقط فيه من الشجر ولقد كان الرجل يخرج لزيارة أقاربه، وعلى رأسه مكتل، أو قُفة، أو طبق فارغ، فلا يصل إلى حيث يريد إلا والطبق قد امتلأ فاكهة، مما تسقطه الرياح، دون أن يمد يده إلى شيء من ثمرها‏.‏ ومن طيبها‏:‏ أنها لم تُرَ في بلدهم بعوضة قط، ولا ذباب، ولا برغوث، ولا عقرب، ولا حية‏.‏ وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل والدواب؛ ماتت الدواب والقمل؛ لطيب هواها‏.‏

‏{‏فأَعْرَضوا‏}‏ عن الشكر، بتكذيب أنبيائهم، وكفر نعمة الله عليهم‏.‏ وقالوا‏:‏ ما نعرف لله علينا من نعمة، عائذاً بالله‏.‏ قال وهب‏:‏ بعث الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبيًّا، يدعونهم إلى الله تعالى، فكذّبوهم، ‏{‏فأرسلنا عليهم سيلَ العَرِم‏}‏ أي‏:‏ سيل الأمر العرم، أي‏:‏ الصعب‏.‏ من‏:‏ عرَم الرجل فهو عارم، وعَرِمَ‏:‏ إذا شَرِسَ خُلقه وصعب، أي‏:‏ أرسلنا عليهم سيلاً شديداً، مزَّق سدهم، وغرق بساتينهم‏.‏ قيل‏:‏ جمع عَرمة، وهي السد الذي يمسك الماء إلى وقت حاجته‏.‏

قال ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ كان هذا السد يسقي جنتها، وبنته بلقيس؛ لأنه لَمّا ملَكت جعل قومها يقتتلون على ماء مواشيهم، فنهتهم، فأبَوا، فنزلت عن ملكها، فلما كثر الشرُّ بينهم أرادوها أن ترجع إلى مُلكها، فأبت، فقالوا‏:‏ لترجعي أو لنَقتلنك، فجاءت، وأمرت بواديهم فسُد أعلاه بالعرم، وهو المُسنّاة بلغة حِمْير فسدت ما بين الجبلين بالصخر والنار، وجعلت له أبواباً ثلاثة، بعضها فوق بعض، وبنت من دونه بركة عظيمة، وجعلت فيها اثني عشر مخرجاً، على عدة أنهارهم‏.‏ فلما جاء المطر اجتمع ماء الصخر وأودية اليمن، فاحتبس السيل من وراء السدّ، ففتحت الباب الأعلى، وجرى ماؤه في البركة، وألقت البقر فيها، فخرج بعض البقر أسرع من بعض، فلم تزل تضيق تلك الأنهار، وترسل البقر في الماء، حتى خرجت جميعاً معاً، فكانت تقسمه بينهم على ذلك، حتى كان من شأنها وشأن سليمان ما كان‏.‏ فكانوا يسْقُون من الباب الأعلى، ثم من الثاني، ثم من الأسفل، فلا ينفد حتى يثوب الماء من السنة المقبلة‏.‏ فلما كفروا وطغوا، سلّط الله عليهم جُرذاً، يُسمى الخلد وهو الفأر فنقبه من أسفله، فغرَّق الماء جنتهم، وخرّب أرضهم‏.‏ ه‏.‏

قال وهب‏:‏ وكانوا يزعمون أنهم يجدون في عِلْمِهم وكهانتهم أنهم يُخرب سدهم فأرة، فلم يتركوا فرجة بين صخرتين إلا ربطوا عندها هِرًّا، فلما حان ما أراد الله بهم، أقبلت فأرة حمراء، إلى بعض الهِرَر، فساورتها أي‏:‏ حاربتها، حتى استأخرت عنها أي‏:‏ عن تلك الفرجة الهرة، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها، ونقبت السد، حتى أوهنته للسيل، وهم لا يدرون، فلما جاء السيل دخل في تلك الخلل، حتى بلغ السد، فخربه، وفاض على أموالهم، فغرقتها، ودفن بيوتهم، ومُزقوا، حتى صاروا مثلاً عند العرب، فقالوا‏:‏ تفرّقوا أياديَ سبأ‏.‏

ه‏.‏

‏{‏وبدلناهم بجنتيهم‏}‏ المذكورتين ‏{‏جنتين‏}‏ أخريَيْن‏.‏ وتسمية المبدلتين جنتين للمشاكلة وازدواج الكلام، كقوله‏:‏ ‏{‏وجَزَآؤُاْ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏‏.‏ ‏{‏ذواتي أُكُل خَمْطٍ‏}‏ الأُكل‏:‏ الثمر المأكول، يخفف ويثقل‏.‏ والخمط، قال ابن عباس‏:‏ شجر الأراك، وقال أبو عبيد‏:‏ كل شجر مؤذ مشوِّك‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ كل شجر مُر‏.‏ ه‏.‏ وفي القاموس‏:‏ الخمط‏:‏ الحامض المر من كل شيء، وكل نبت أخذ طعماً من مرارة وحموضة، وشجر كالسدر، وشجر قاتل، أو كل شجر لا شوك له‏.‏ ه‏.‏ وقرأ البصريان بالإضافة، من إضافة الشيء إلى جنسه، كثوب خز؛ لأن المراد بالأكل المأكول، أي‏:‏ ذواتي ثمر شجر بشيع‏.‏ والباقون‏:‏ بالتنوين، عطف بيان، أو صفة، بتأويل خمط ببشيع، أي‏:‏ مأكول بشيع‏.‏ ‏{‏وأثْلٍ‏}‏ هو شجر يشبه الطرفاء، أعظم منه، وأجود عوداً‏.‏ ‏{‏وشيءٍ من سِدْرٍ قليل‏}‏ والحاصل أن الله تعالى أهلك أشجارهم المثمرة، وأنبت مكانها الطرفاء والسدر‏.‏ وإنما قال‏:‏ السدر، لأنه أكرمُ ما بُدلوا به؛ لأنه يكون في الجنان‏.‏

‏{‏ذلك جزيناهم بما كفروا‏}‏ أي‏:‏ جزيناهم ذلك بكفرهم، فذلك مفعول مطلق بجزينا، ‏{‏وهل يُجازى‏}‏ هذا الجزاء الكلي ‏{‏إِلا الكفورُ‏}‏ أي‏:‏ لا يجازى بمثل هذا الجزاء إلا مَن كفر النعمة ولم يشكرها، أو‏:‏ كفر بالله، أو هل يعاقب؛ لأن الجزاء وإن كان عامًّا يستعمل في معنى المعاقبة، وفي معنى الإثابة لكن المراد الخاص، وهو المعاقبة‏.‏ قال الواحدي‏:‏ وذلك لأن المؤمن يكفر عنه سيئاته، والكافر يجازى بكل سوء عمله‏.‏ قلت‏:‏ بل الظاهر المجازاة الدنيوية بسلب النعم، ولا تسلب إلا للكفور، دون الشكور‏.‏ قاله في الحاشية‏.‏

وعن الضحاك‏:‏ كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما السلام‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ ولعلهم استمروا من زمن سليمان إلى أن جاوزوا زمن عيسى عليه السلام‏.‏

الإشارة‏:‏ لكل مريد وعارف جنتان عن يمين وشمال، يقطف من ثمارهما ما يشاء؛ جنة العبودية، وجنة الربوبية، جنة العبودية للقيام بآداب الشريعة، وجنة الربوبية للقيام بشهود الحقيقة، فيتفنّن في جنة العبودية بعلوم الحكمة، ويتفنّن في جنة الربوبية بعلوم القدرة، وهي أسرار الذات وأنوار الصفات‏.‏ كُلوا من رزق ربكم حلاوةَ المعاملة في جنة العبودية، وحلاوةَ المشاهدة في جنة الربوبية؛ بلدة طيبة هي جنة الربوبية؛ إذ لا أطيب من شهود الحبيب، ورب غفور لتقصير القيام بآداب العبودية؛ إذ لا يقدر أحد أن يحصيها، ولا جزءاً منها‏.‏

فأعرض أهل الغفلة عن القيام بحقهما، ولم يعرفوهما، فأرسلنا على قلوبهم سيل العرم، وهو سيل الخواطر والوساوس، وخوض القلب في حِس الأكوان، فبدلناهم بجنتيهم جنتين؛ مرارة الحرص والتعب، والهم والشغب‏.‏ ذلك جزيناهم بكفرهم بطريق الخصوص من أهل التربية، وهل يُجازى إلا الكفور‏.‏

قال القشيري‏:‏ ‏{‏وبدلناهم بجنتيهم جنتين‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، كذلك من الناس مَن يكون في رَغَدٍ من الحال، واتصالٍ من التوفيق، وطيب من القلب، ومساعدة من الوقت، فيرتكبُ زَلَّةً، أو يتبع شهوةً، ولا يعرف قَدْرَ ما يفوته فيفتر عليه الحالُ، فلا وقتَ ولا حالَ، ولا قُربَ ولا وصالَ، يُظْلِمُ عليه النهارُ، بعد أن كانت لياليه مضيئة‏.‏ وأنشدوا‏:‏

ما زلتُ أختال في زَماني *** حتى أَمِنتُ الزمانَ مَكْرَه

طال علينا الصدودُ حتى *** لم يبق مما شَهِدْت ذَرَّه

‏{‏ذلك جزيناهم بما كفروا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏:‏ ما عوقبوا إلاَّ بما استوجبوا، وما سُقُوا إلاَّ ما أفيضوا، ولا وقعوا إلاَّ في الوَهْدَةِ التي حَفَرُوا، وما قُتِلُوا إلا بالسيف الذي صَنَعُوا‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ ‏(‏18‏)‏ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏19‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وجعلنا بينهم‏}‏ أي‏:‏ بين سبأ ‏{‏وبين القرى التي باركنا فيها‏}‏ بالتوسعة على أهلها بالنعم والمياه، وهي قرى الشام، ‏{‏قُرىً ظاهرةً‏}‏ متواصلة يُرى بعضها من بعض؛ لتقاربها، فهي ظاهرة لأعين الناظرين، أو‏:‏ ظاهرة للسَّابلة، لم تبعد عن مسالكهم حتى تخفى عليهم، وهي أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة، من سبأ إلى الشام، ‏{‏وقدَّرنا فيها السيْرَ‏}‏ أي‏:‏ جعلنا هذه القرى على مقدار معلوم، يقيل المسافر في قرية، ويروح إلى أخرى، إلى أن يبلغ الشام‏.‏ وقلنا لهم‏:‏ ‏{‏سِيرُوا فيها‏}‏ ولا قول هناك، ولكنهم لَمَّا تمكنوا من السير، ويُسّرت لهم أسبابه، فكأنهم أُمروا بذلك، فقيل لهم‏:‏ سيروا في تلك القرى ‏{‏لياليَ وأياماً آمنينَ‏}‏ أي‏:‏ سيروا فيها إن شئتم بالليل، وإن شئتم بالنهار، فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات، أو‏:‏ سيروا فيها آمنين لا تخافوا عدواً، ولا جوعاً، ولا عطشاً، وإن تطاولت مدة سيركم، وامتدت أياماً وليالي‏.‏ فبطروا النعمة، وسئموا العافية، وطلبوا الكدر والتعب‏.‏

‏{‏فقالوا ربَّنا باعِدْ بين أسفارِنَا‏}‏ قالوا‏:‏ يا ليتها كانت بعيدة، نسير على نجائبنا، ونتخذ الزاد، ونختص بالربح في تجاراتنا، أرادوا أن يتطاولوا على الفقراء بالركوب على الرواحل، ويختصوا بالأرباح‏.‏ وقرأ يعقوب «ربُّنا» بالرفع «باعَدَ» بفتح العين، فربنا‏:‏ مبتدأ، والجملة‏:‏ خبر، على أنه شكوى منهم ببُعد سفرهم، إفراطاً في الترفيه وعدم الاعتداد بالنعمة‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بشد العين، من «بعِّد» المضعف‏.‏ والباقون بالألف والتخفيف، من‏:‏ باعد، بمعنى «بعد» المشددة‏.‏ ‏{‏وظلموا أنفسَهم‏}‏ بما قالوا، وما طلبوا، ففرّق الله شملهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فجعلناهم أحاديثَ‏}‏ يتحدث الناس بهم، ويتعجبون من أحوالهم، ويضرب بهم الأمثال، يقال‏:‏ تفرقوا أيادي سبأ، وأيدي سبأ، يقال بالوجهين‏.‏ وفي الصحاح‏:‏ ذهبوا أيادي سبأ، أي‏:‏ متفرقين، فهو من المُركّب تركيب مزج‏.‏

‏{‏ومزَّقناهم كل مُمزّقٍ‏}‏ أي‏:‏ فرقناهم كل تفريق، فتيامن منهم ست قبائل، وتشاءمت أربعة، حسبما تقدم في الحديث‏.‏ قال الشعبي‏:‏ أما غسان فلحقوا بالشام، وأما أنمار فلحقوا بيثرب، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة، والأزد بنعمان‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ وفيه مخالفة لظاهر الحديث، فإن أنمار جد خثعم وبجيلة، ولم يكونوا في المدينة‏.‏

والذي هو المشهور أن الأوس والخزرج هما اللذان قدما المدينة، فوجدوا فيها طائفة من بني إسرائيل، بعد قتلهم للعماليق‏.‏ وسبب نزولهم بها‏:‏ أن حَبْرين منهم مَرَّا بيثرب مع تُبع، فقالا له‏:‏ نجد في علمنا أن هذه المدينة مهاجرَ نبي، يخرج في آخر الزمان، يكون سنه كذا وكذا، فاستوطناها، يترصَّدان خروجه صلى الله عليه وسلم، فمن نسلهما بقيت اليهود في المدينة، والأوس والخزرج هما ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأسد بن الغوث ابن بنت مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ‏.‏

وولد مازن بن الأسد هم غسان، سموا بماء اليمن، شربوا منه‏.‏ ويقال‏:‏ غسان‏:‏ ماء بالشمال شربوا منه، نُسبوا إليه‏.‏ قال حسان‏:‏

أما سألت فإنا معشرٌ نجبٌ *** الأسْدُ نسبتُنا والماء غسان

‏{‏إنَّ في ذلك لآيَاتٍ لكل صبَّارٍ‏}‏ عن المعاصي ‏{‏شكورٍ‏}‏ للنعم، أو‏:‏ لكل مؤمن؛ لأن الإيمان نصفان؛ نصفه صبر، ونصفه شكر‏.‏

الإشارة‏:‏ وجعلنا بين السائرين وبين منازل الحضرة المقدسة منازلَ ظاهرة، ينزلوها، ويرحلون عنها، آمنين من الرجوع، إن صَدَقوا في الطلب، وهي منازل كثيرة، وأهمها اثنا عشر مقاماً‏:‏ التوبة، والخوف، والرجاء، والزهد، والصبر، والشكر، والتوكُّل، والرضا، والتسليم، والمراقبة، والمشاهدة‏.‏ ومنازل الحضرة هي الفناء، والبقاء، وبقاء البقاء، والترقِّي في معاريج الأسرار والكشوفات، أبداً سرمداً‏.‏ يقال للسائرين‏:‏ سيروا فيها، وأقيموا في كل منزل منها، ليالي وأياماً، حتى يتحقق به نازله، ثم يرحل عنه إلى ما بعده‏.‏ ثم إن قوماً سئموا من السير وادَّعوا القوة، فقالوا‏:‏ ربَّنا باعد بين أسفارنا حتى يظهر عزمنا وقوتنا، وظلموا أنفسهم بذلك، ففرقناهم عنا كل تفريق، وعوّقناهم عن السير كل تعويق، ليكون ذلك آية وعبرة لمَن بعدهم، فلا يخرجون عن مقام الاستضعاف والمسكنة، والانكسار والذلة، «أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏20‏)‏ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقد صدق عليهم إبليسُ ظَنَّه‏}‏ الضمير في «عليهم» لكفار سبأ وغيرهم‏.‏ وكأن إبليسَ أضمر في نفسه حين أقسم‏:‏ ‏{‏لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 82‏]‏ أنه يسلط عليهم، وظن أنه يتمكن منهم، فلما أغواهم وكفروا صدق ظنه فيهم‏.‏ فمَن قرأ بالتخفيف ف «ظنه»‏:‏ ظرف، أي‏:‏ صَدق في ظنه‏.‏ ومَن قرأ بالتشديد فظنه مفعول به، أي‏:‏ وجد ظنه صادقاً عليهم حين كفروا ‏{‏فاتَّبَعوه‏}‏ أي‏:‏ أهل سبأ ومَن دان دينهم، ‏{‏إِلا فريقاً من المؤمنين‏}‏ قللهم بالإضافة إلى الكفار، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 17‏]‏ وفي الحديث‏:‏ «ما أنتم في أهل الشرك إلا كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود»‏.‏

‏{‏وما كان له عليهم من سلطانٍ‏}‏ أي‏:‏ ما كان لإبليس على مَن صدق ظنه عليهم من تسلُّط واستيلاء بالوسوسة، ‏{‏إِلا لِنَعْلَم‏}‏ موجوداً ما علمناه معدوماً ‏{‏من يؤمنُ بالآخرةِ ممن هو منها في شكٍّ‏}‏ أي‏:‏ إِلا ليتعلق علمنا بذلك تعلُّقاً تنجيزيًّا، يترتب عليه الجزاء، أو‏:‏ ليتميز المؤمن من الشاك، أو‏:‏ ليؤمن مَن قُدّر إيمانُه، ويشك من قُدر ضلالُه‏.‏ ‏{‏وربك على كل شيءٍ حفيظٌ‏}‏ محافظ رقيب، وفعيل ومفاعل أخوان‏.‏

الإشارة‏:‏ كل مَن لم يصل إلى حضرة العيان صدق عليه بعض ظن الشيطان؛ لأنه لما رأى بشرية آدم مجوفة، ظن أنه يجري معه مجرى الدم، فكل مَن لم يسد مجاريه بذكر الله، حتى يستولي الذكر على بشريته، فيصير قطعة من نور، فلا بد أن يدخل معه بعض وساوسه، ولا يزال يتسلّط على قلب ابن آدم، حتى يدخل حضرة القدس، فحينئذ يحرس منه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عَبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏‏.‏ وعباده الحقيقيون هم الذين تحرّروا مما سواه، فلم يبقَ لهم في هذا العالم علقة، وهم المرادون بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا فريقاً من المؤمنين‏}‏ وما سلَّطه عليهم إلا ليتميز الخواص من العوام، فلولا ميادين النفوس، ومجاهدة إبليس، ما تحقق سير السائرين، أي‏:‏ وما كان له عليهم من تسلُّط إلا لنعلم علم ظهور مَن يؤمن بالخصلة الآخرة، وهي الشهود، ممن هو منها في شك، ‏{‏وربك على كل شيء حفيظ‏}‏ يحفظ قلوب أوليائه من استيلاء غيره عليها‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 23‏]‏

‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ‏(‏22‏)‏ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ حذف مفعولي زعم، أي‏:‏ زعمتموهم آلهة تعبدونهم من دون الله، بدلالة السياق عليهما‏.‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ لهم ‏{‏ادعوا الذين زعمتم من دون الله‏}‏ أي‏:‏ زعمتموهم آلهة، فعبدتموهم من دون الله، من الأصنام والملائكة، وسميتموهم باسْمِهِ، فالتجئوا إليهم فيما يعروكم، كما تلتجئون إليه في اقتحام الشدائد الكبرى‏.‏ وانتظروا استجابتهم لدعائكم كما تنتظرون استجابته‏.‏ وهذا تعجيز وإقامة حجة على بطلان عبادتها‏.‏ ويُروى أنها نزلت عند الجوع الذي أصاب قريشاً‏.‏ ثم ذكر عجزهم فقال‏:‏ ‏{‏لا يملكون مثقال ذرةٍ‏}‏ من خير أو شر، ونفع أو ضر ‏{‏في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شِرْكٍ‏}‏ أي‏:‏ وما لهم في هذين العالَمين؛ العلوي والسفلي، من شرك في الخلق، ولا في المُلك، ‏{‏وما له‏}‏ تعالى ‏{‏منهم‏}‏ من آلهتهم ‏{‏من ظهيرٍ‏}‏ معين يعينه على تدبير خلقه‏.‏ يريد أنه على هذه الصفة من العجز، فكيف يصحُّ أن يُدْعَوا كما يدعى تعالى، أو يُرْجَوا كما يُرجى سبحانه‏؟‏

ثم أبطل قولهم‏:‏ ‏{‏هَؤُلآَءِ شُفَعَآؤُنَا عِندَ اللهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏ بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تنفعُ الشفاعةُ عنده إِلا لمن أَذِنَ له‏}‏ تعالى في الشفاعة، ممن له جاه عنده، كالأنبياء، والملائكة، والأولياء، والعلماء الأتقياء، وغيرهم ممن له مزية عند الله‏.‏ وقرأ أبو عمرو والأخوان بالبناء للمفعول، أي‏:‏ إلا مَن وقع الإذن للشفيع لأجله‏.‏ ثم ردّ على مَن زعم من الكفار أن الملائكة تشفع، قطعاً؛ لمكانها من الله، فقال‏:‏ ‏{‏حتى إِذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق‏}‏ فحتى‏:‏ غاية لمحذوف، أي‏:‏ وكيف تشفع قبل الإذن، وهي في غاية الخوف والهيبة من الله، إذا سمعوا الوحي صعقوا، ‏{‏حتى إِذا فُزِّع عن قلوبهم‏}‏ أي‏:‏ كشف الفزع عن قلوبهم ‏{‏قالوا ماذا قال ربكم‏}‏ من الوحي‏؟‏ ‏{‏قالوا الحقَّ‏}‏ فمَن كان هذا وصفه لا يجترىء على الشفعاعة إلا بإذن خاص‏.‏ قال الكواشي‏:‏ إنه يفزع عن قلوبهم حين سمعوا كلام الله لجبريل بالوحي، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر لأهل السماء أخذت السماوات منه رَجْفةٌ أو قال‏:‏ رَعْدَةٌ شديدةٌ خوفاً من ذلك، فإذا سمع أهل السماوات صَعِقُوا، وخَرُّوا سُجداً، فيكون أول مَن يرفع رأسه جبريل، فيُكلمه من وَحْيِه بما أراد، ثم يَمُرُّ على سماءٍ سماء، إلى أن ينزل بالوحي، فإذا مَرَّ على الملائكة سألوه، ثم قالوا‏:‏ ماذا قال ربكم‏؟‏ فيقول جبريل‏:‏ قال الحقَّ» نصب المفعول بقالوا، وجمع الضمير تعظيماً لله تعالى‏.‏

ثم قال‏:‏ وفي الحديث‏:‏ «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة، كجر السلسلة على الصفا، فيصعقون، حتى يأتيهم جبريل، فيفزع عن قلوبهم أي‏:‏ يكشف ويخبرهم الخبر»

ثم قال‏:‏ وقيل المعنى‏:‏ أنه لا يشفع أحد إلا بعد الإذن، ولا يشعر به إلا المقربون؛ لِما غشي عليهم من هول ذلك اليوم، فإذا ذهب الفزع عن قلوبهم، قالوا‏:‏ ماذا قال ربكم في الشفاعة‏؟‏ قالوا الحق، أي‏:‏ أذن فيها‏.‏ ه‏.‏ ومثل هذا لابن عطية، وتبعه ابن جزي، قال‏:‏ الضمير في «قلوبهم»، وفي «قالوا» للملائكة‏.‏ فإن قيل‏:‏ كيف ذلك، ولم يتقدم لهم ذكر‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه قد وقعت إليهم إشارة بقوله‏:‏ ‏{‏وَلا تنفع الشفاعة عنده إلا لمَن أذن له‏}‏ لأن بعض العرب كانوا يعبدون الملائكة، ويقولون‏:‏ هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فذكر الشفاعة يقتضي ذكر الشافعين، فعاد الضمير على الشفعاء، الذين دلَّ عليهم ذكر الشفاعة‏.‏ ه‏.‏

وقرأ يعقوب وابن عامر «فَزع» بفتح الفاء بالبناء للفاعل‏.‏ والتضعيف للسلب والإزالة، أي‏:‏ سلب الفزع وأزاله عن قلوبهم، مِثل قردت البعير‏:‏ إذا أزلت قراده، ومَن بناه للمفعول فالجار نائب‏.‏ ‏{‏وهو العليُّ الكبيرُ‏}‏ أي‏:‏ المتعالي عن سمة الحدوث، وإدراك العقول، الكبير الشأن، فلا يقدر أحد على شفاعة بلا إذنه‏.‏

الإشارة‏:‏ كل مَن آثر شيئاً أو أحبّه سوى الله، أو خافه، يقال له‏:‏ ادعوا الذين زعمتم أنهم ينفعونكم أو يضرونكم، من دون الله، ‏{‏لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ وأما محبة الأنبياء والأولياء والعلماء الأتقياء فهي محبة الله، لأنهم يُوصلون إليه، فلم يحبهم أحد إلا لأجل الله، فتنفع شفاعتهم بإذن الله‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا فُزع عن قلوبهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، قال الورتجبي‏:‏ وصف سبحانه أهل الوجد، من الملائكة المقربين، وذلك من صولة الخطاب، فإذا سمعوا كلام الحق، من نفس العظمة، وقعوا في بحار هيبته وإجلاله، حتى فنوا تحت سلطان كبريائه، ولم يعرفوا معنى الخطاب في أول وارد السلطنة‏.‏ فإذا فاقوا سألوا معنى الخطاب من جبريل عليه السلام، فهو من أهل الصحو والتمكين في المعرفة‏.‏ ه‏.‏

ثم تتم قوله‏:‏ ‏{‏لا يملكون مثقالَ ذرةٍ‏}‏ أي‏:‏ لا من رزق ولا غيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 27‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏24‏)‏ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏25‏)‏ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ‏(‏26‏)‏ قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏27‏)‏‏}‏

يقول الحق جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏قلْ‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏من يرزقكم من السماوات والأرض‏}‏ أي‏:‏ بأسباب سماوية وأرضية‏؟‏ ‏{‏قل اللهُ‏}‏ وحده‏.‏ أمره أن يقرّرهم، ثم أمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم، أي‏:‏ يرزقكم الله لا غيره، وذلك للإشعار بأنهم مقرُّون به بقلوبهم، إلا أنهم ربما أبَوا أن يتكلموا به، لأنهم إن تفوّهوا بأن الله رازقهم لزمهم أن يقال لهم‏:‏ فما لكم لا تعبدون مَن يرزقكم، وتؤثرون عليه مَن لا يقدر على شيء‏؟‏

ثم أمره أن يقول لهم بعد الإلزام والإحجاج‏:‏ ‏{‏وإِنا وإِياكم لعلى هُدىً أو في ضلالٍ مبين‏}‏ أي‏:‏ ما نحن وأنتم على حالة واحدة، بلى على حالين متضادين، واحدنا مهتد، وهو مَن اتضحت حجته، والآخر ضال، وهو مَن قامت عليه الحجة‏.‏ ومعناه‏:‏ أن أحد الفريقين من الموحدين ومن المشركين لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال‏.‏ وهذا من كلام المنصف، الذي كل مَن سمعه، من مُوالٍ ومعاند، قال لمَن خوطب به‏:‏ قد أنصفك صاحبك‏.‏ وفي ذكره بعد تقديم ما قدّم من التقرير‏:‏ دلالة واضحة على مَن هو من الفريقين على الهدى، ومَن هو في الضلال المبين، ولكن التعريض أوصل بالمجادل إلى الغرض، ونحوه قولك لمَن تحقق كذبه‏:‏ إن أحدنا لكاذب، ويحتمل أن يكون من تجاهل العارف‏.‏

قال الكواشي‏:‏ وهذا من المعاريض، وقد ثبت أن مَن اتبع محمداً على الهدى، ومَن لم يتبعه على الضلال‏.‏ ه ويحتمل أن يكون من اللف والنشر المرتّب‏.‏ وفيه ضعف‏.‏ وخولف بين حرفي الجار، الداخلين على الهدى والضلال؛ لأن صاحب الهدى كأنه مستعلٍ على فرس جواد، يركضُه حيث شاء، والضال كأنه منغمس في ظلام، لا يدري أين يتوجّه‏.‏

‏{‏قل لا تُسألون عمّا أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون‏}‏ أي‏:‏ ليس القصد بدعائي إياكم خوفاً من ضرر كفركم، وإنما القصد بما أدعوكم إليه الخير لكم، فلا يُسأل أحد عن عمل الآخر، وإنما يُسأل كل واحد عن عمله‏.‏ وهذا أيضاً أدخل في الإنصاف، حيث أسند الإجرام إلى أنفسهم، وهو محظورٌ، والعمل إلى المخَاطبين، وهو مأمورٌ به مشكورٌ‏.‏ ‏{‏قل يجمع بيننا ربنا‏}‏ يوم القيامة، ‏{‏ثم يَفتحُ‏}‏ أي‏:‏ يحكم ‏{‏بيننا بالحق‏}‏ بلا جور ولا ميل، فيدخل المحقّين الجنة، والمبطلين النار، ‏{‏وهو الفتاحُ‏}‏ الحاكم ‏{‏العليمُ‏}‏ بما ينبغي أن يحكم به‏.‏

‏{‏قل أَرونيَ الذي ألحقتم‏}‏ أي‏:‏ ألحقتموهم ‏{‏به شركاءَ‏}‏ في العبادة معه، بأي صفة ألحقتموهم به شركاء في استحقاق العبادة، وهم أعجز شيء‏.‏ قال القشيري‏:‏ كانوا يقولون في تلبيتهم‏:‏ لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك؛ لانهماكهم في ضلالهم، مع تحققهم بأنها جمادات لا تفقه ولا تعقل، ولا تسمع ولا تبصر، ولا شبهة لهم غير تقليد أسلافهم‏.‏

ه‏.‏ والمعنى قوله‏:‏ ‏{‏أَروني‏}‏ مع كونه يراهم‏:‏ أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله، وأن يطلعهم على حالة الإشراك به، ولذلك زجرهم بقوله‏:‏ ‏{‏كلا‏}‏ أي‏:‏ ارتدعوا عن هذه المقالة الشنعاء، وتنبّهوا عن ضلالكم‏.‏ ‏{‏بل هو الله العزيزُ‏}‏ أي‏:‏ الغالب القاهر، فلا يشاركه أحد، «وهو»‏:‏ ضمير الشأن، ‏{‏الحكيمُ‏}‏ في تدبيره وصنعه‏.‏ والمعنى‏:‏ بل الوحدانية لله وحده؛ لأن الكلام إنما وقع في الشركة، ولا نزاع في إثبات الله ووجوده، وإنما النزاع في وحدانيته‏.‏ أي‏:‏ بل هو الله وحده العزيز الحكيم‏.‏

الإشارة‏:‏ أرزاق الأرواح والأشباح بيد الله، فأهل القلوب من أهل التجريد اشتغلوا بطلب أرزاق الأرواح، وغابوا عن طلب أرزاق الأشباح، مع كونهم مفتقرين إليه، أي‏:‏ غابوا عن أسبابه‏.‏ وأهل الظاهر اشتغلوا بطلب أرزاق الأشباح، وغابوا عن التوجُّه إلى أرزاق الأرواح، مع كونهم أحوج الناس إليه‏.‏ وكل فريق يرجح ما هو فيه، فأهل الأسباب يعترضون على أهل التجريد، ويرجحون تعاطي الأسباب، وأهل التجريد يرجحون مقام التجريد، فيقولون لهم‏:‏ وإنا أو إياكم لعلى هُدىً أو في ضلال مبين‏.‏ قل‏:‏ لا تُسألون عما أجرمنا، بزعمكم، من ترك الأسباب، ولا نُسأل عما تعملون‏.‏ وسيجمع الله بيننا، ويحكم بما هو الحق، فإن كنتم تعتمدون على الأسباب، وتركنون إليها، فهو شرك، أروني الذين ألحقتم به شركاء، كلا، بل هو الله العزيز الحكيم، يُعز أولياءه، المتوجهين إليه، الحكيم في إسقاط مَن أعرض عنه إلى غيره‏.‏

قال القشيري‏:‏ ‏{‏قل يجمع بيننا ربنا‏}‏ أخبر سبحانه أنه يجمع بين عباده، ثم يعاملهم في حال اجتماعهم، بغير ما يعاملهم في حال افتراقهم، وللاجتماع أثرٌ كبيرٌ في الشريعة، وللصلاة في الجماعة أثر مخصوص‏.‏ ثم قال‏:‏ وللشيوخ في الاجتماع زوائد، ويستروحون إلى هذه الآية‏:‏ ‏{‏قل يجمع بينا ربنا ثم يفتح‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏ ه‏.‏

ولمَّا ذكر ما منّ به على داود وسليمان، وذكر وبال مَن لم يشكر النعم، ذكر ما منّ به على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من عموم الرسالة والدعوة‏.‏